الجديد

شرق المتوسط .. عين تركية على الثروة وأخرى على الدفاع

محمد بشير ساسي
عندما انطلقت من أحد موانئ إسطنبول في 20 يونيو/حزيران الماضي سفينة “ياووز” المتخصصة بالحفر في البحار باتجاه سواحل قبرص الشرقية، دعما لسفينة فاتح الموجودة غرب قبرص إلى جانب سفينة “بربروس” المتخصصة بالتنقيب عن النفط والغاز، كان ذلك برأي المراقبين إيذانا ببداية عاصفة الصراع لإعادة تشكيل القوى الإقليمية على ثروات مياه شرق البحر المتوسط.
تحرّك السفن التركية بذلك الثقل الإستراتيجي حمل معه رسالة مشفّرة مفادها لا يمكن لأحد أن يتجاهل الطرف التركي عند إبرام معاهدات بين دول المنطقة في إشارة إلى تلك التي وقعتها مصر وقبرص اليونانية في 2013 للتّنقيب عن الغاز.
أما الرسالة الواضحة تجاه كلّ من سوّلت له نفسه من القوى الإقليمية للّعب في ظهر تركيا فقد ترجمها أسطولها البحري العسكري بوقف أعمال سبع سفن تنقيب عن الغاز الطبيعي تحمل أعلاما أجنبية غرب قبرص الجنوبية، وفق تقارير صحيفة تركية.
كما كشفت تلك التقارير أن هذه السفن دخلت المناطق المختلف عليها للتنقيب عن الغاز، وأن الجيش التركي تدخّل كي يمنعها استنادا إلى صلاحياته المستمدة من قانون البحار الدولي، بسبب تحرك قبرص اليونانية وحدها، ومحاولة وضع تركيا أمام الأمر الواقع.
وتناغما مع كلّ هذه التطورات يكاد يجمع المسؤولون الأتراك على قاعدة أساسية وتوجّه مشترك بأنّ بلدهم سيحاسب أي دولة تهدد مصالحه في شرق المتوسط وسيواصل حماية بكل ما أوتي من قوة دون الإكتراث إلى صراخ وعويل البعض على حد تعبير الرئيس التركي رجب طيّب أوردوغان، في إشارة إلى إعلان مصر اعتراضها على اتفاق ترسيم الحدود بين ليبيا وتركيا، والذي وصفته بفاقد للشرعية القانونية معتبرة أن اتفاق “الصخيرات” يخول مجلس رئاسة الوزراء الليبي كله – وليس رئيس المجلس منفردا – عقد الاتفاقات الدولية.
أما اليونان التي تحرّكت إلى جانب مصر وقبرص وقررت طردت السفير الليبي محمد يونس المنفي، واصفة اتفاق البلدين بأنه “انتهاك سافر للقانون الدولي”. وبعيدا عن دائرة الجدل وقلق جهات دولية من بدء تركيا التنقيب في جرفها القاري، فإن لغة الأرقام تفرض منطق التكالب الإستراتيجي بكلّ ما يحمله من مصطلحات تأجيج التوتر والتهديد والابتزاز والسّيطرة على أكثر ما يمكن من ثروات. فحقول المتوسط تضمّ مخزونا هائلا من الغاز يجعل منه كنزا إستراتيجيا لبلدان المنطقة وهو ما كشفت عنه هيئة المسح الجيولوجي الأميركية بأنّ كامل مخزون الغاز في المتوسط يــــــــــــــــــــــــــــقدر بــــ 122 تريليون قدم مكعبة، بما فيها الحقول الواقعة في المياه الإقليمية، في حين قدّرت الاستثمارات النفطية في قبرص اليونانية بــــ 198مليار متر مكعب من الغاز عام 2012، التي من المتوقع أن توفر لها 39 مليار دولار تشمل حصة التنقيب.
ومما يزيد الأمور توتّرا حسب المراقبين هو تنسق قبرص اليونانية مع إسرائيل دون إشراك جمهورية شمال قبرص التركية، وهو ما رفضته أنقرة بشدة منذ البداية، لأنها رصدت محاولات للعمل على مشروع مشترك بين اليونان وقبرص اليونانية وإسرائيل يهدر حق تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية في ثروات شرق المتوسط منذ 2012 وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن تركيا تعتمد على استيراد نحو 75% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج، ويتحمل ميزان مدفوعاتها نحو 40 مليار دولار سنويا، فإن قضية غاز شرق المتوسط منطقي أن تحتل أهمية كبرى لأنقرة، فهي من جانب تعكس احتياجا اقتصاديا، ومن جانب آخر تتعلق بوضعها الإقليمي وضرورة الحفاظ على مكانتها، وكونها قوة إقليمية لها اعتباراتها التاريخية وحقوقها في ثروات المنطقة.
يبدو أن الخطوة التركية هي نفسها التي تخطط لها مصر التي تقدر حصتها من ثروة شرق البحر المتوسط من الغاز بـ850 مليار متر مكعب ما مكّنها من إعلان اكتفائها الذاتي من الغاز الطبيعي منتصف عام 2019. معطيات جعلت أنقرة ترتمي في أحضان موسكو وتذيب سريعا جليد أزمة إسقاط الطائرة الروسية من قبل سلاح الجو التركي أواخر 2015، ليتوجا تعاونهما بالإعلان عن مشروع “السيل التركي” الذي تم في أكتوبر/تشرين الأول 2016 لينقل بموجبه غاز روسيا إلى أوروبا عبر البحر الأسود والأراضي التركية بسعة 31.5 مليار متر مكعب سنويا. وفي خضم التطورات الجيوسياسية في منطقة شرق المتوسط لم تغفل العين العكسرية التركية عن الحاجة الملحة إلى إنشاء قاعدة بحرية دائمة في الجزء التركي من قبرص ستمنع انتهاكات مناطق الطاقة البحرية، ومنح شمال قبرص وتركيا أوراقا أقوى في أي مفاوضات قد تستأنف بشأن الأزمة القبرصية والحقوق السيادية لتركيا في شرق المتوسط.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP