الجديد

المنصف عاشور يكتب عن: شروط حكومة "الكفاءات الوطنية" بديلا عن "الثورجية" و "الشعبوية"

المنصف عاشور
تعيش بلادنا أزمة حادة منذ انطلاق تشكيل حكومة رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي في مرحلتها الأولى التي ترجع فيها المسؤولية الأساسية للحزب الفائز الأول في انتخابات 6 اكتوبر 2019.
وبالرجوع الى الأسباب العميقة والخفية وراء تعطل المسار الحكومي، وبعيدا عن أسلوب ومنطق تحميل المسؤولية لطرف دون اخر أو تفسير تأزم الوضع بعامل وحيد وتغييب العوامل الأخرى، لابد من الاهتداء الى مقاربة شاملة وواقعية قادرة على إيجاد الحلول الملائمة للظرف الذي تمر به البلاد والشروط الكفيلة بإخراجها من الأوضاع الصعبة التي الت اليها.
 
في ضرورة تغيير القانون الانتخابي
 
للمرة الثانية على التوالي تتأكد الحاجة الملحة لتغيير النظام الانتخابي حتى تفرز الانتخابات وضعًا طبيعيًا يكون فيه طرفًا أو مجموعة قادرة على تشكيل أغلبية حاكمة وتركن المجموعات الانتخابية الأقلية لموقع المعارضة.
تتوضح آنذاك طرفي المعادلة الديمقراطية حكما ومعارضة التي تمثل الشرط الأساسي للتداول السلمي على السلطة ويُحكَّم فيه صندوق الاقتراع وإرادة الناخبين على خلفية معاقبة الفاشلين وتثبيت الناجحين من الفاعلين السياسيين.
وفي انتظار ذلك لا بد للنخب ولعموم التونسيين من الإقرار والاعتراف بحدود النظام الانتخابي الجاري به العمل إلى حد الان واستحالة ان تفرز الانتخابات وضعية أقرب الى مقتضيات النظام الديمقراطي الطبيعي وبالتالي لا مفر من التسويات السياسية ومن أنصاف الحلول لتفادي انتكاسة الانتقال الديمقراطي وتعطل المسار المؤسساتي والتلويح بالبدائل الشعبوية والمغامرة.
 
في مسؤولية النهضة
 
تتحمل حركة النهضة المسؤولية الرئيسية فيما آلت اليه الأوضاع وذلك اعتبارا لما ميز خطابها وسلوكها سواء طيلة الحملة الانتخابية وخاصة خطابات رئيسها المتشنجة والراديكالية والصدامية لركب تيار “الثورة” وهو يسير… كما أن تصرف قيادات النهضة بعد الانتخابات غابت عنه روح المسؤولية وسقطوا في الانتصارية والنزوع الى التسلط والتغول.
و ما تقديم شخص رئيس الحركة كاحتمال جِدّي لرآسة الحكومة والإستماتة من أجل الدفاع عن أحقيته بهذا المنصب الا دليلًا عن سياسة الهروب الى الأمام والاستخفاف بالمناصب العليا لمؤسسات الدولة وتغليب العصبية التنظيمية والحزبية على ثقافة الدولة.
وقد عاشت الطبقة السياسية ووسائل الإعلام تحت ضغط هذا السيناريو غير الواقعي وغير المسؤول لأسابيع عديدة الى ان تبين للحركة عدم جدية هذا الاختيار وطابعه اللاشعبي، وهو ما اضطرها الى العدول عنه وسحب هذه الورقة التي اتضح فيما بعد انها كانت بغرض تمرير سيناريو ترشيح الغنوشي لرآسة مجلس نواب الشعب.
كما ان الأخطاء الفادحة التي رافقت إدارة انطلاق اشغال المجلس النيابي وانتخابات مكتبه زادت في تعميق الصراع والنزاع بين الفرقاء السياسيين والكتل النيابية.  ثم إن الدور التحريضي والتصعيدي الذي لعبته كتلة الكرامة زاد في تعقيد الأوضاع وربما أصبح يمثل عبئا ثقيلا على حركة النهضة اذ أصبحت في كثير من الأحيان تتأثر بالتوجهات المتطرفة والراديكالية مما همش الأصوات “العاقلة” فيها.
 
مفوضات حكومية في مناخ متوتر
 
في ظل هذا المناخ المتوتر انطلقت المشاورات بشأن تشكيل الحكومة المنبثقة عن انتخابات 6 اكتوبر 2019 وهو ما يفسر الى حد بعيد العثرات والصعوبات والخيبات التي تخلّلها ووهم الخيار “الثوري” وحدود الوساطات ومغالطة الرأي العام تواصلًا لمنهج التستر بالخطاب الثوري الذي أعطى أكله ومكّن حركة النهضة من التقليص من الهزيمة الانتخابية والعودة من بعيد والتمكن من الحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات.
سعت حركة النهضة بعد الانتخابات، وهو يعد خطأ فادحًا، الى حصر المشاركة في المشاورات حول تشكيل الحكومة في القوى التي تعتبرها في صف الثورة (هكذا) وغاب عنها انه كان عليها ان تغير خطابها اذ كما يقول بعض السياسيين هناك خطابا لافتكاك السلطة وخطابا لممارسة السلطة.
وحتى لا تفقد المزيد من ناخبيها وقواعدها استمرت في ترديد الخطاب الثوري ومقاومة الفساد ومعاداة المنظومة القديمة والقطيعة معها والبحث على تعزيز التحالفات مع قوى الثورة ورفض التعامل مع قوى الثورة المضادة.
هكذا شاء الغنوشي وهكذا سارت حركة النهضة وقد ذابت في كثير من الأحيان الفوارق بينها وبين ائتلاف الكرامة. وكان من الصعب على حركة النهضة المواصلة على هذا النهج الذي أصبح يهدد بصورة جدية الرصيد التي نجحت في كسبه لدى جزء من الرأي العام الدولي والوطني على انها سائرة نحو التطور الى حزب مدني واصلاحي.
ومن بين النتائج الحتمية لهذا المخاض الاستقالات التي عرفتها الحركة وتنامي مظاهر التمرد على الغنوشي وانحسار تأثيره مع تقارب المواعيد الانتخابية داخل الحركة ومنها بالخصوص المؤتمر الوطني العام في ماي  2020. وقد تزداد الاختلافات حدة كلما اقتربنا من موعد هذا المؤتمر  على خلفية معركة خلافة الغنوشي على راس الحركة.
 
وهم الخطاب الثوري .. الشعبوية “الثورجية”
 
في غمرة التخميرة بالخط الثوري ونظرية استثمار المد الثوري والشعبي الانتخابي وتشكيل الحكومة على هذه الأرضية طلع علينا الثنائي ابناء الشعب الكريم والبسيط بمبادرة قيل انها وساطة الفرصة الأخيرة لإنقاذ الثورة والديمقراطية والكرامة والشعب لتحيا تونس!!! مقابل إسقاط الثورة المضادة ومنظومة الفساد والحنين للاستبداد. وأصبحنا نتحدث عن هوية ثورية الحكومة وعن بديل تنموي جديد وعقد اجتماعي جديد وسيادة وطنية وعلاقات ثورية مع الخارج واولوية تحرير فلسطين …
كل ذلك في سويعات كانت كافية لاستعادة وتعزيز الثقة بين قوى الثورة وبث الإحباط في صف القوى المضادة للثورة ، ودائما مع السعي للاستفادة من الزخم الانتخابي والشعبي لرئيس الجمهورية ومحاولة تحسين شروط التفاوض في المسار الحكومي، واستباق المرحلة الدستورية الثانية المنظمة لتشكيل الحكومة، في صورة الفشل في القيام بالمهمة في المرحلة الأولى.
ورغم ما رافق هذا التوجه من حملات إعلامية ودعائية سعت الى النفخ فيه وتقديمه بانه الخيار المثالي حتى ولو ادى الأمر الى إقصاء ما يقارب نصف البرلمان والتحالف مع من كانوا يعتبرونها منظومة الفشل وإحدى فروع النداء (تحيا تونس) او التقارب مع الفوضويين ودعاة الثورة الدائمة (ائتلاف الكرامة).
ان كل متتبع يقظ كان على أتم الوعي بالحدود الموضوعية لمثل هكذا مشاريع شبيهة بالأكلة السريعة في حين ان الخيارات المجتمعية تبنى على نار هادئة. وكانت النبرة والظواهر الصوتية والغلو في الشعارات تخفي تناقضات عميقة وهشاشة وقابلية الانتكاسة في كل وقت.
الشعارات واللاءات ولن الزخمشرية والهوس بالثورة دون رؤية وبرامج يصبح مراهقة ورومانسية لا تليق بالنخب التي تروم بناء دولة القانون والمؤسسات. والتي لا تكتفي بالأدوار الاتصالية بقدر اهتمامها بكيفية تغيير الواقع نحو الأفضل.
ومن الغريب ان تنساق كبرى الأحزاب وراء مبادرات غير جدية وتفتقد الى النضج والتجربة والحكمة والرصانة والتعقل وبعد النظر وتحظى بالثقة والمصداقية والموضوعية لدى اغلب الفاعلين السياسيين وغير معنية بالتجاذبات الحزبية والسياسوية الضيقة خاصة في ظرف قل فيه هذا النوع من القماش السياسي.
سرعان ما انطفأت شعلة النار التي كانت من تبن وانتكست محولات توحيد جبهة “التصدي والصمود” ومنيت “الثورة” بهزيمة نكراء.
ما معنى ان يحاول البعض من الحالمين والمتملقين ومن أثرياء الثورة إيهام التونسيين بان الرهان اليوم هو بين قطبي الثورة والثورة المضادة!!! فهل يعيش التونسيون اليوم على وقع هذا التصنيف وهذه الفوارق؟؟؟
ان ما يهم التونسي اليوم هو ايجاد فريق حكومي قادر على الخروج به من أتون الفقر والتهميش والفوارق الاجتماعية والجهوية وضمان غد أفضل لأبنائه على كافة المجالات.
 
الرهان على حكومة رشيدة
 
ان الرهان الحقيقي هو بين حوكمة رشيدة وحوكمة فاسدة، بين بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية سليمة وبيئة ملوثة بكل المعاني. بين مشروع مجتمعي تقدمي ومحاولات الرجوع الى عصور الانحطاط والتخلف. بين الالتحاق بركب الحضارة والعبارة للزعيم الخالد بورقيبة او العودة لسنوات الجهل و الرضا بالدون.
ولهذه الأسباب لم يكن الخيار القائم على تقسيم التونسيين اعتباطًا بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة خيارًا واقعيًا بل طوباويًا وليس له تأثير في الواقع وهو على تظاهره بالثورية يتميز بالعجز على ايجاد الحلول الملموسة للمشاكل الملموسة .
ولما كان الخيار الثوري لا يمكن ترجمته في الواقع كان لزامًا على القوى السياسية المسؤولة البحث على بديل براغماتي مع القطع مع المحاصصات الحزبية والعمل على ترشيد مقاربة حكومة الكفاءات وقطع الطريق أمام محاولات الهيمنة والنفوذ الذي لا يلائم الحجم الطبيعي والحقيقي لكل طرف من الأطراف السياسية حتى تحظى بأوسع وفاق ممكن وقابلية في المجتمع.
بصراحة وبكل صراحة، لا أجد في هذا المسمى “برتوكول “ما من شانه ان يفرق بين التونسيين الى قوى الثورة وقوى الثورة المضادة وبقطع النظر عن الأسلوب والجمل الثورية فإنني على يقين بان معظم القوى السياسية لا تجد حرجا في امضاء مثل هذه المواثيق لعموميتها والأصل في الأشياء والأهم من كل هذه الصياغات المنمقة والغارقة في الشعارات الفضفاضة هي السياسات والإجراءات والآليات الملموسة والإصلاحات الضرورية لتحقيق الأهداف المرسومة.
على أهمية قيم الثورة والديمقراطية والتقدم فان ما يميز اداء الدول والحكومات وحتى الشعوب اليوم ليست النوايا الحسنة والانتماء الى معسكر الأيديولوجيا مهما كانت واذ توحدت اغلبها على الليبرالية السياسية واقتصاد السوق.
العالم يساس على قاعدة أساسية وهي الحوكمة الرشيدة لتحقيق الثروة وتوزيعها التوزيع العادل وهو ما يبرز في نسب النمو وفي تحسن نوعية الحياة للعباد واكدت تجارب الإنسانية قاطبة في المعسكرين الشرقي والغربي وبعد سقوط جدار برلين انه لا معنى ولا جدوى ولا خير ترجى من اشتراكية الفقر ولا فايدة من اشتراكية البؤس وطوباوية الديمقراطية التي لا تصنع السعادة ولا يتحرر فيها الفرد ولا ينفتح فيها المجتمع ويزدهر وبالتالي الأكيد اليوم هي الممارسات الجيدة والسليمة عوض ضعف الاداء والقصور في إدارة الشأن العام.
بلادنا في وضعها الراهن وهي فيما هي عليه ليست في حاجة الى الدخول في مرحلة تضخيم الانا والغرور والغلو في الشعارات الرنانة والمغامرة الطفولية وقد مارستها بعض الشعوب في العالم غربيها وشرقيها وفي وطننا العربي والناس تعرف نتائجها الوخيمة حتى على كبرى البلدان النفطية والغنية.
لقد أكدت التجارب البعيدة والقريبة وجاهة العقل البورقيبي القائم على المصالحة بين النجاعة والبعد الاجتماعي هو الأفضل خاصة إذا عززنا هذا البناء بالبعد الديمقراطي وبالنفس التحرري.
 
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP