الجديد

بورقيبة .. الزعيم رغم الأخطاء و كيد الكائدين

ماجد البرهومي

إن مشكلة الكثيرين مع الزعيم المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة أنهم يقارنونه بالأنبياء و الرسل وهو البشر الخطاء الذي لا عصمة له، فتراهم يعددون ما يرونه أخطاء ارتكبها و يضخمون من حجمها و يحاججون بها لنفي الزعامة عن “وحيد القرن”. وقد نجح هؤلاء إلى حد ما في ترسيخ بعض أفكارهم لدى جماهير الدهماء و المنخنقة و الموقوذة و النطيحة و ما أكل السبع ممن يكتفون بالسماع من هذا الطرف أو ذاك دون بحث أو تمحيص.

فأصبح بورقيبة في مخيال هؤلاء كتلة متنقلة من الشرور وهم الذين لم يسلم منهم اغلب عظماء هذه الأرض التونسية تحركهم بداوة ذهنية دفينة لا تعترف للآخر المحلي بأي إنجاز باعتباره منافسا لا شريكا في المدنية. فبورقيبة بنظرهم عميل باع البلاد و العباد و خدم المصالح الأجنبية و لم يقاوم الإستعمار و زج بأبنائنا في حرب خاسرة في بنزرت، و ديغول بنظر بعضهم الرجل الطيب الذي كان سيمنح بورقيبة بنزرت لولا أن الأخير تسرع و ذهب باتجاه إرضاء نرجسيته. كما أن حنبعل في نظر البعض من هؤلاء، الذين يبخسون الوطن حقه في أن يكون له عظماء، “متحيل” لم يحاصر روما طيلة عقد من الزمان مثلما “ادعى” المؤرخون بل رابط في الأراضي الإيطالية و انغمس في الملذات فتفطنوا إليه و أرجعوه رافضين مده بالجند و العتاد.

و من المضحكات المبكيات أن تلك التهم التي تطال الزعيم الراحل من بعض “رفاقنا” القوميين و اليساريين فينعتونه بالديكتاتور و العميل و غير الديمقراطي الذي أراد الإستحواذ على كرسي الرئاسة مدى الحياة. و كأن رموزهم العرب، الذين نجل و نحترم، كانوا أقل دموية من بورقيبة و أكثر ديمقراطية و لا يصنفون في عداد الطغاة أو كأن مراجعهم في بلاد القياصرة على غرار ستالين أو أنور خوجة الألباني أو ماو الصيني كانوا مراجع في الديمقراطية و في الإيمان بالحريات.

لقد ظلموا بورقيبة و اخرجوه من سياقه التاريخي و معايير عصره و محيطه الإقليمي و بيئته و دون النظر إلى موازين القوى التي كانت سائدة في ذلك الوقت و الظروف التي حفت بعصره المأزوم و بنضاله، و حاسبوه بمقاييس اليوم ووفقا للمتغيرات الآنية في ظلم لم يعرف له التاريخ مثيلا. فمعايير التقييم متغيرة و غير ثابتة من عصر إلى عصر ناهيك عن أنه في بعض العصور كان من يصفي خصومه و معارضيه يوصف بأنه “وأد الفتنة و حافظ على الدولة من أعدائها و نشر العدل و العمران”، و اعتبروا أن الإستمرار في السلطة لسنوات هو عامل فخر و اعتزاز للحاكم فيقال “و استمر عهده فترة هامة من الزمن”.

اتهموه بالعمالة لفرنسا و ليت العملاء كانوا مثله يساهمون بقسط في وافر في تحريك ثورة مسلحة ضد فرنسا، أي ثورة 18 جانفي 1952 التي كانت حاسمة لنيل البلاد لاستقلالها، و يشن عليها حروبا في بنزرت و رمادة و قرب العلامات الحدودية الصحراوية ( العلامة 233) و يؤمم أراضي بلاده الزراعية بطرد المعمرين الفرنسيين منها و يتونس الأمن و الجيش و الإدارة و يقيم العلاقات الديبلوماسية خلافا للإرادة الفرنسية. ناهيك عن نضاله السياسي صلب الحزب الحر الدستوري القديم و الجديد و الذي أودع بموجبه في السجون و المنافي وهو ما أثر لاحقا على وضعه الصحي.

كما اتهمه بعض الدهماء بالعمالة للصهيونية وهو الذي أرسل كتيبة من الجيش الوطني التونسي بقيادة الجنرال عبد العزيز سكيك لقتال الصهاينة جنبا إلى جنب مع الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973. وهو أيضا الذي استقبل منظمة التحرير الفلسطينية في تونس و جزء من المقاتلين الفلسطينيين بعد إخراج المنظمة من بيروت سنة 1982 و تحول إلى ميناء بنزرت لاستقبال الوافدين وهو الشيخ الهرم الطاعن في السن ناهيك عن مساندته لقضايا التحرر في إفريقيا و دعمه لنضال السود في إفريقيا الجنوبية ضد سياسة التمييز العنصري و استقباله لنيلسن مانديلا في بداية عهده بالنضال و تقديم كل أشكال الدعم له.

لقد وصل الأمر بهؤلاء الحاقدين على الزعيم الراحل إلى حد تشويه تمثاله الذي أقيم له في باريس وحامت الشكوك حول أطراف تونسية تنتمي إلى تيار فكري يعادي الحداثة التي نادى بها الزعيم الراحل تقيم في بلد الأنوار. و لا يحتاج المرء إلى ذكاء حاد ليدرك أن اليد التي أزالت اللافتة التي تشير إلى مكتب محاماة الزعيم في باب سويقة بقلب المدينة العتيقة بعد 14 جانفي 2011 هي ذاتها التي شوهت تمثال المجاهد الأكبر في باريس و ذلك بالنظر إلى كميات الحقد التي تملأ قلوب هؤلاء على باني تونس الحديثة.

و يجهل هؤلاء أن بورقيبة هو من دافع عن سيد قطب و رفض إعدامه من قبل جمال عبد الناصر في مصر و وصل الأمر إلى حد تنديد مجلس الأمة التونسي بحكم الإعدام لمرجع الإخوان في تونس و في العالم. كما أن الصحافة التونسية و بدفع من الزعيم الحبيب بورقيبة شنت حملة شعواء ضد المحاكمات الجائرة التي طالت الإخوان في مصر في عهد عبد الناصر، خاصة و أن لبورقيبة علاقات متينة بالجماعة تعود إلى فترة إقامته في القاهرة قبل إستقلال تونس و نضاله من أجل القضية التونسية في رحاب النخب المصرية و جامعة الدول العربية حديثة النشأة في ذلك الوقت.

لقد خطب بورقيبة جنبا إلى جنب مع سيد قطب في مقر جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة سنة 1947، و طالب “أمم المشرق العربي” أن تشد أزر شقيقاتها في “المغرب العربي”، و زار حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين مقر مكتب المغرب العربي في القاهرة يوم 14 ماي  1947. ومنح بعد الإستقلال الجنسية التونسية للقيادي الإخواني المصري يوسف ندا مثلما منحها للصحفي الفلسطيني محمد علي طاهر الذي كان خير سند للقضية التونسية أيام إقامة الزعيم الحبيب بورقيبة في القاهرة بحثا عن الدعم من أجل إستقلال تونس.

و بالتالي لم تكن لبورقيبة أية أحقاد لا على الإسلام مثلما يدعي خصومه و لا على الفكر الإخواني، لكن سلوك قادة حركة الإتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا)، الذين لم يستثمروا هذه العلاقات الودية التاريخية بين بورقيبة و الإخوان، هو الذي دفعه إلى معاداتهم سياسيا خوفا من تهديدهم لمكاسب دولة الإستقلال و لتهجمهم المستمر منذ البداية على شخصه. و يروى أن بورقيبة في رده على القيادي الإخواني توفيق الشاوي الذي جاءه سنة 1982 من أجل الوساطة بينه و بين حركة الإتجاه الإسلامي في تونس قال ما مفاده أن الحركة الإسلامية التونسية رجعية و هي غير متنورة مثل نظيرتها المصرية وهي تهاجمه شخصيا و يجب أن تؤدب.

و تبدو حركة النهضة بحاجة اليوم إلى القيام بمراجعات أسوة بمن يعتبره بعض أنصارها و مريديها ملهما، أي رجب طيب أردوغان، الذي لا يتردد في زيارة قبر مصطفى كمال أتاتورك سنويا و تعليق صورته في كل مكان. و يبدو أن أردوغان قد أدرك ما لم يدركه جمهور حركة النهضة من قياديين و أتباع وهو الرمزية التي للآباء المؤسسين في دولهم و أهمية أن تكون لكل بلد مرجعياته و رموزه و يتعلق الأمر ببشر خطائين و ليس بأنبياء مرسلين. و سواء نال بورقيبة اعترافهم بما أنجز أو لم ينل فهو بالنهاية زعيم و سيبقى زعيما شاء من شاء و أبى من أبى.
لقد عاد بورقيبة من جديد إلى المشهد التونسي ممتطيا صهوة جواده، فارسا مغوارا، سواء من خلال تمثاله الذي أعاده الرئيس الباجي قائد السبسي إلى مكانه في شارع الحبيب بورقيبة، أو من خلال الجدل الذي ثار بشأن مسيرته و موروثه و آثاره و تأثيره في حياة التونسيين. و في هذا الإطار يقول الباجي قائد السبسي “عندما يفعل الزمن فعله، وعندما ينقّى البرّ من الزؤان ويفرز الغث من السمين، و يحل التاريخ محل راهن الأحداث، سوف يخرج الحبيب بورقيبة من جحيمه و يعود تمثال الفارس التونسي الأكثر مجدا ليتبوأ مكانه في تونس، في شارع الحبيب بورقيبة، قبالة تمثال عبد الرحمان بن خلدون، عالم الإجتماع التونسي الألمع عبر كل العصور.. و بدا الأمران كأنهما متلازمان، و كأن بورقيبة جاء على حصانه ليطلع عن كثب عن الجدل الذي ثار فجأة بشأنه بعد 14 جانفي 2011 أو ليقود المعارضة ضد من يستهدف مكتسبات دولة استقلاله على مرأى و مسمع من الجميع. و في هذا الإطار يقول ميشال كامو عالم السياسة الفرنسي “لأنهم لم يفهموا معنى الزمن العائد، وكيفية التوافق معه بمراسم تليق بالحدث، فقد أطلقوا من جديد شبح بورقيبة الذي غدا رمزا للمعارضة”.

لقد عاد بورقيبة بسبب فشل سياساتهم خلال فترة حكم الترويكا و بروز الصراعات الإيديولوجية الوهمية بين الإسلاميين و العلمانيين التي لا تهم المواطن البسيط الباحث عن قوت يومه في شيء. فتم الإستنجاد ببورقيبة لعله يكون المنقذ في زمن شحت فيه الزعامات وهو الزعيم و الأب المؤسس للأمة التونسية بمفهومها الحديث.

كما عاد بورقيبة إلى الواجهة أيضا بسبب التهجم عليه من قبل أكثر من مغامر إما باحث عن الشهرة أو ساعيا للتغطية عن تجاوزات في هيئته “الدستورية”، لذا أصبح الزعيم مطية لمن هب و دب يستفزون من خلاله أنصاره . كما عاد بورقيبة بعد أن قرر البعض المتاجرة بصورته للولوج إلى قلوب فريق من التونسيين من خلاله وهو الذي تعلقت به قلوب هؤلاء سواء خلال مرحلة الكفاح ضد الإستعمار أو خلال سنوات بناء دولة الإستقلال.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP