الدعوات للمؤتمر الوطني .. المُصالحة والتّسويات
المهدي عبد الجواد
تتواترُ في تونس منذ مدّة الدعوات لعقد مؤتمر وطني للحوار، واتخذت هذه الدعوات أشكالا وتسميات مُختلفة وصدرت من جهات متنوعة. فمن الدعوة إلى حوار وطني اجتماعي إلى المناداة بمؤتمر يصدر عنه ميثاقا وعقدا جديدا إلى مؤتمر إنقاذ، دعت أحزاب وشخصيات سياسية ومثقفين ومنظمات وطنية إلى ذلك. وبقطع النّظر على “التجاذب” السياسي من أجل افتكاك “سبق المبادرة” فإن شروط نجاح هذا الحوار لا تبدو للأسف متوفّرة.
وهو ما يُفسّر إلى حدّ بعيد بقاء هذه الدعوات مجرد مبادرات للاستهلاك الإعلامي وإعادة التموقع السياسي، إذ يتميّز المشهد السياسي والمدني بصراع المؤسسات و بالانقسام الحادّ بين الأحزاب وبين المنظمات الاجتماعية علاوة على عودة الاستقطابات المانعة لكل عملية مصالحة او تسوية الضروريان لكل حوار جدي، تلك عوائق رئيسية أمام انعقاد “مؤتمر الحوار” ناهيك على نجاحه في خلق توافق حول مُخرجات يلتزم بها الجميع.
المؤسسات التسوية الحتمية
تحتاج تونس اليوم مصالحة بين مؤسسات الحُكم الثلاث. فما يروج من تجاذبات بين رأسي السلطة التنفيذية أمر يُعطّل كل محاولة لخلق “تصورات” مُشتركة للمرحلة ويمنع كل “توافق” على سياسات عمومية فعّالة وناجعة. والتنسيق التام بين رأسي السلطة التنفيذية شرط رئيس لانعقاد مؤتمر حوار وطني، فلكل منهما صلاحيات دستورية يتمّ من خلالها ترجمة مُخرجات هذا المؤتمر. وينضاف الى التسوية بين رأسي السلطة التنفيذية الحاجة إلى تسوية شاملة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشّعب.
إذ ان للمجلس دور مهمّ ليس في إكساب أي مؤتمر “مشروعية” الانعقاد فقط، بل وأيضا توفير الأرضيات والمخارج “والتخريجات” القانونية أن لزم الأمر ذلك. فبمثل ما يُعبّر رئيس الجمهورية على الإرادة الشعبية المباشرة ويُمثّل وحدة البلاد والحامي لمصالح أمنها القومي، فإن مجلس النواب هو أيضا الفضاء الذي تتجلّى فيه إرادة الشعب والأداة التي تُعبّر على إرادته، ويُمارس من خلالها سيادته، وهو الذي منه يكتسبُ رئيس الحكومة الشرعية، والحقّ في صياغة السياسات العامة الضرورية.
إن كلّ عملية تأخير في رؤية الرؤساء الثلاث معا، وبشكل دوري، وكلّ غياب لرؤية تجمع بينهما تعكس تشخيصا موحّدا لطبيعة التحديات و”التزاما” مُشتركا بتنفيذ قرارات المؤتمر الوطني، لن يزيد إلا في مخاوف الناس من الانقسام، وسيكون عامل فشل لكل محاولات “الحوار الوطني” .
صراع التمثيلية/الشرعية
أن “صراع المؤسسات” يخلق في تونس اليوم أزمة في الشرعية. فثمة تجاذب بينها. وثمة رغبة في إفقاد بعضها البعض “المشروعية” والمصداقية الضروريتان لبناء الثقة بين المؤسسات من جهة، وبين المؤسسات والرأي العام من جهة ثانية. ويطرح ذلك مسألة رعاية المؤتمر نفسه. إذ ان مؤسسات الحُكم المُنتخبة “الرئاسة ومجلس النواب” والحكومة باعتبارها امتدادا للشرعية النيابية هي المُخوّلة وحدها دستوريا التّحدّث باسم “الإرادة الشعبية” وهي الفضاءات الطبيعية لاستيعاب كل المبادرات و لها “سلطة” الإشراف على كل مؤتمر.
لكن المنظمات الوطنية وجمعيات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والأحزاب، تُنازع المؤسسات هذا الحقّ، وتُريد بدورها الإشراف على هذا الحوار، في محاولة لاستنساخ “الرباعي الراعي” في تجربة حوار سنة 2014.
ان ظروف وسياقات حوار 2014، تختلف كليا على سنة2020، فلا السياق الوطني ولا الإقليمي ولا الدولي متماثلة. ناهيك على طبيعة الشخصيات المشاركة في الحوار. فلا يوجد اليوم في تونس توازنا سياسيا ولا باجي قائد السبسي أو حسين العباسي أو وداد بوشماوي أو فاضل محفوظ، وفقدت الرابطة وعمادة المُحامين تأثيرهما الوطني، وبرزت على الساحة منظمات أخرى وقوى مجتمع مدني أكثر قوة وتمثيلية على غرار منظمة كوناكت وأنا يقظ وعودة الروح لاتحاد المرأة واتحاد الفلاحين.
كما ان تنازعا قائما اليوم حول الأحقية في الإشراف على هذا المؤتمر، بين مؤسسات شرعية و قوى مجتمع مدني لا تُمثّل في النهاية غير مُنخرطيها مهما كان عُمق تاريخها او تنوع أدوارها السياسية تاريخيا. فاتحاد الشغل مثلا على أهميته ليس مُعبّرا باي شكل من الأشكال على “إرادة شعبية” وليس له او لغيره من المنظمات الوطنية التفويض الضروري للتكلّم باسم “الشعب” أو ادعاء الدفاع على مصالحه. كما ان هذا الحوار يستدعي فيما يستدعي ضبط “إستراتيجية” وطنية لعقد اجتماعي واقتصادي جديد، لا بد فيه، من مُراجعة الوظائف والأدوار وحدودها. ودون توفّر ذلك فإنه لن يُكتب لمثل هذا المؤتمر الانعقادُ، ولن تكون لمُخرجاته فرصة التنفيذ.
في حتمية المُصالحات
ثمة نفاق سياسي عميق يشقّ الدعوات الى عقد مثل هذا المؤتمر. إذ أن جزءا مهما من الداعين إليه لا يؤمنون مثلا بالمصالحة الوطنية الشاملة، ولا يؤمنون بثقافة “التوافق” بل يستثمر الكثير منهم في تأجيج الصراعات الإيديولوجية وتغذية الأحقاد التاريخية و تفجير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. فكيف يُمكن لمن لا يؤمن بالتسويات التاريخية بين العائلات الفكرية والسياسية التونسية إن يكون مشاركا في “حوار وطني”؟ وكيف يُمكن لمن يدعو إلى هدم كامل للمنظومة الدستورية والتشريعية والسياسية ان يكون في مؤتمر إنقاذ؟ وبأي منطق يُشرف من يقوم بتغذية القطيعة بين المؤسسات و يُكرّر ترذيل الأحزاب والسياسيين ان يكون مُشرفا على مؤتمر لصياغة تعاقدات جديدة؟؟
ان عدم الالتزام الجماعي، مؤسساتيا وسياسيا ومدنيا بكون المصالحة الشاملة، في مجاليها السياسي والاقتصادي يجب أن تكون إحدى مُقرّرات هذا المؤتمر بشكل يطوي نهائيا ملف الماضي وجراحاته، سيجعل من هذا المؤتمر مجرّد حفل “صور” شكلي، والحال ان مؤتمرا وطنيا للإنقاذ يجب ان يكون قادرا على الوصول إلى “توافقات” قد تكون مؤلمة وثورية.
إن الدعوة لمؤتمر إنقاذ صار اليوم امرأ مشروعا. والتعجيل به في هذه الظروف الاستثنائية مسألة وطنية ترتقي إلى “الأمن القومي” ولكن توفير شروط نجاحه أهم بكثير من التّسّرّع في عقده بلا ضمانات. ففشله سيكون أكثر قسوة وكارثية على البلاد من عدم انعقاده أصلا. إن “المصالحة” هي المفتاح الرئيسي لنجاح كل محاولة صياغة تعاقدات جديدة، لمواجهة التحديات الخطيرة. مصالحة بين مؤسسات الدولة الشرعية، ومُصالحة بين المنظمات ومصالحة بين الفاعلين السياسيين والتيارات الفكرية. دون ذلك فإن الأزمة ستزداد تفاقما، والنفاق السياسي سيزداد بريقا.
Comments