المشهد التونسي اليوم: حيرة وقلق وانسداد للأفاق .. فما الحل ؟
شعبان العبيدي
نعيش منذ بدايات مأسسة الثورة وتبنّي القوى السياسيّة المتعاقبة على الحكم تحقيق مطالبها وتنزيــــــل شعاراتها الكبرى القائمة على مبدأ الحريّة والكرامة والتّشغيل انحدارا متواصلا نحــــو الانهيار وذبول ياسمين الرّبيع العربيّ مع تآكل الحسّ الثّوري وخيبة الآمال والعودة إلى حالة النّــــدم وعذاب الضّمير وتمنّي استعادة وضع العبودية مع كفالة رغيف العيش. هذا هو الحال المجتمعي الّذي بات يتردّد على ألسنة كلّ الفئات الّفقيرة والمتوسطّة وحتّى المترفة.
الثورة: من “الهامش” الى “المأسسة” ؟
استطاعت الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والمدنية أن تلتحـــــــق بركب الحراك الثّوري وأن تطوّعه مؤسساتيا، وتتبنّى شعارات الثّورة لتدخل بها مرحلة بناء جديدة للدّولة المدنية والجمهورية الثانية الدّيمقراطية انطلاقا من تركيز المجلس التأسيسي الّذي نهض في مهامّه بإعادة كتابة دستور جديد يقطــع مع كلّ أشكال عودة الدّيكتاتورية و الظلم و الاستغلال.
وكانت فصول هذا المجلس طيلة ثلاث سنــــوات أشبه بفصول مسرحية “الأيدي القذرة” لجان بول سارتر لأنّها لم تكشف لنا حينها وبعدها إلاّ عن فســـاد النّخب والمتعلمين الذين يعتبرهم “تشومسكي” أدوات طيّعة صنعها النّظام التعليمي التقليدي لإعادة إنتاج السلطة في بشاعتها و فسادها وقمعها.
وأخيرا أسدلت الستارة على هذه المسرحية الّتي تركت فيها الدّولة لتتنفسّ برئتيها القديمتين وتعمل بجهازها السّابق الذي ينخره الفساد والمحسوبيّة والــــــــزّبونيّة والولاء للّوبيات الّتي بدأت تعود من سباتها وتخرج من جحورها وتبني قنوات اتّصال وعلاقات مـــــــــع رموز أحزاب جديدة وسياسيين لا يحرّكهم إلاّ الطّموح إلى افتكاك مكان بين الأمكنة على الكراسي المقلوبة في ركح الدّولة السّائبة.
وهكذا تعاظمت في ظلّ المرحلة الأولى من حكم الباجي قايد السبسي ( الوزير الأول الذي خلف محمد الغنوشي اخر وزير اول في عهد بن علي) ثم انتخاب المنصف المـــرزوقي رئيسا والحكومات الثلاث المتعاقبة (الجبالي، العريض و المهدي جمعة) أخطار عدّة أمنيا مع الضربات الإرهابية واجتماعيا مع انتشـــــار فوضى الاحتجاجات وتواصل الاعتداء على مقرّات السيادة واقتصاديا تعطّل آلة الإنتاج وارتفاع سقف المطلبية.
عجز الحكام .. غياب المشروع الوطني
وفي ظلّ هذا الوضع السّوداوي الغائم، وأمام غياب القدرة السياسية لدى الأحـــزاب الحاكمة والمــاسكة بالسلطة السياسية ودواليب الدّولة على وضع خيارات وطنية إصلاحية وهيكلية واضحة، و العجز عــن مواجهة النوازل ومصارحة الشّعب بحقيقة الأوضاع، والارتعاش في اتّخاذ إجراءات حازمة في إعــادة هيبة الدّولة و إنعاش مؤسساتها و تنقيتها من كلّ الرواسب و الأعطاب الّتي نخرتها ازدادت الأوضـــاع تأزما ودخلت البلاد في مرحلة ما قبل الحوار الوطني في مسار ينذر بحرب أهلية، غذّتها الصّــــراعات الأيديولوجية والسياسية الصبيانية و شبكات اللّوبيات الّتي جمعت أصابعها مثل أصـــابع الشيطــــان من الفاسدين وأصحاب المال غير الشرعيّ والمهربيّن وتجّار المخدّرات.
وذلك بعد أن افتكوا لهم مــــواقع إعلامية كانت وظيفتها توجيه أنظار الجماهير إلى السّاحة السياسية و تغذية صراعاتها وإذكاء نـــارها، أو خدمة لأجنذات خارجية تدرّ عليها المال الوفير، وليس خافيا أنّ الكثير من الإعلاميين يعملــــون ويكتبون تحت الطلب والبيع والشّراء من أجل إذكاء نار الحرب ضدّ العدوّ السياسي، و لا يهمّهم أمام الجشع و بيع الذّمم و الرّبح المادّي أن تتشوّه صورة البلاد من وراء ذلك.
عودة السبسي .. وتبدد الحلم
عموما كنّا نتصوّر، كما كانت غالبية الشّعب التّونسي تنتظر الفرج مع صعود الرئيس الباجي إلى رئاسة الجمهورية ونجاح الحوار الوطني في تحقيق توافق سياسي مكّن البلاد من مرحلة من الهدوء النّسبي لــم تخل هي الأخرى من مناورات من أصحاب المصالح، ونحن نعتبــــــــــر أنّ فترة حكومة الحبيب الصيد ويوسف الشاهد أساسا بما حقّقته كانت قادرة على حلحلة الأوضاع الصّعبة والخـــــــروج من الأزمة ولو بنسبة مئوية هامّة.
لكنّ الصّراعات السياسية التي أصبحت حرفة لدى كثير من الأحزاب السياسية وتنامي الخطاب الشعبوي بات كأنّه قدر مسلّط على رقابنا حتّى لا نترك حكومة تعمل وتنفذّ برامجها في أجالهــا الدّستورية ومحاسباتها بعيدا عن خطابات الزعيق والنهيق.
وهكذا ساهمت الأحـــــزاب الماسكة بالسّلطة والمعارضة في تفويت المزيد من الفرص على البلاد وإنقاذ الدّولة من التفكّك والضّعف والانهيــــــــــار. وعادت الخيبة من جديد لتجثم على صدور التّونسيين وتتعالى صيحات الرفض والاحتجاج والثورة على الأحزاب الحاكمة والسياسيين محملين إيّاهم أسباب تأزم أوضـــاعهم الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والأمنية.
الكفر بالديمقراطية .. تصعيد أعداؤها
ولم يكن من حلّ في ظلّ اللّعبة الدّيمقراطية، الّتي باتت عالة وعاهة شوّهت صورة البــلاد، إلاّ معاقبة أصحاب السّلطة عبر الانتخابات الأخيرة التشريعية والرئاسية. ولكن الولادة الأخيــــــــرة للعملية الانتخابية كانت أكثر قبحا وبشاعة من سابقاتها ، مثلها مثل فشل عمليات الحقن المجهري لأطفال الأنابيب وما آلت إليه من تشوهات. وذلك بما أفرزته من سلطة خرافية ثلاثية الرؤوس وحشية هجينة شبيهة بإله المايا “غريفين” عجيب التّركيب والأذى والشّرور.
فما جرى و يجري خلال سنتين من الانتخابات من تهريج سياسي و عربدة و منازلات خطابية شعبـــــوية بين القصر والقصبة وباردو، وما يؤثّث البرلمان من فوضى أخلاقية وسقوط قيمي و كوميديا سوداء يبرز بالكاشف أنّ هذه الطبقة السياسية الحاكمة الّتي جثمت على مفاصل الدّولة اختارت أن تخوض حروبها ومعاركها الخاصّة تحت يافطات الخداع السياسي مثل خدمة الشّعب و حماية الشّعب و الشــــــــــرعية والمشروعية، وبلغة الحرب و الإلغاز و اصطياد الخصم في المنعرج، والتفاخر حتّى في القدرة على التسوّل بعد أن مرغوا وجه البلاد وتاريخها في الوحل وحوّلوها إلى مسخرة بين الأمم.
العبث السياسي .. في زمن الوباء
كلّ هذا العبث الذي بلغ حدّه يجري ومازال يجري إلى اليوم في شكل لعبة شدّ الحبــل مع إعفاء وزير الصّحة من طرف رئيس الحكومة واستقباله والثناء عليه من قبل رئيس الجمهورية، يذكّرنا بمعـــارك الأطفال. والشّعب متروك لقدر الموت بعد أن حصد الوباء الألاف وما زال يحصد والجـــــــــــوع والبطالة وتفشي الفساد وعبث عصابات التّجـار والمجرمين ومؤسّسات الدّولة تتداعى يوما بعد يوم، والحالة السياسية مستمرة في “بـــروفا مسرحيــة” عبثية. كلّ هذا العبث عمّق الحنق الشّعبيّ وضجّت به صدور النّاس وتعالت دعوات المـــــــــــرور إلى حالة “الاستثناء” سواء من طرف رموز النظام القديم أو من طرف أنصار الرئيس أو من طرف متقاعدين من العسكريين.فهل باتت “حالة الاستثناء” هي الحلّ لخروج البلاد من أزمتها السياسية أساسا؟ وهل مـــــلّ الشّعب شعار الدّيمقراطية المغشوشة الّتي لم تجلب له إلاّ الخراب والدّمار؟
نجد اليوم أنفسنا أمام دعوات متكرّرة من هنا وهناك، وبقطع النّظر عمّن يقف خلفها، فإنّ قيمتها تبقى في اعتبارها علامة ورسالة على بلـــوغ الشّعب درجة من الضيق لم يعد له معها قدرة على الصبر والجلوس فوق الربوة وهو يكتوي بنـــــــار الموت والجوع وتشوّه صورة البلاد وسقوطها إلى مهاوي التسوّل والعجز، بل بات الحلّ اليوم في قلب الطاولة على الجميع ومواجهة فوضى الشّرعية الانتخابية بفوضى شعبيّة، استـــــــــوت فيها عنده الحياة والموت والاستقرار والحرب الأهلية. وهذا هو مقصد رسالة الدّعوات إلى الخروج لإسقاط النّظام الفاشل، التي تعبر عن حالة يأس كبيرة وغير متوقعة.
الياس .. طريق المجهول والفوضى
حالة الاستثناء في الحكم حالة ضرورة لدرأ المخاطر وحماية الدّولة، ليست بدعة في تــــــــــــاريخ الفكر السياسي والممارسة السياسية بل هي حلّ يقوم على تعليق للعمل بالنّظام القانوني والدّستوري واختيـــــار نظام حكم فرديّ مؤقت لدرأ الخطر عن البلاد سواء أكان داخليا أم خارجيا.
واعتماد قواعد حكم معيارية جديدة يفرضها الظرف الطارئ الذي يغلّب المصلحة على القانون والاستبداد على الدّيمقراطية. فحيـــــن يصبح القانون والشّرعية الانتخابية مضرّين بمهمّة الدّولة العليا في الحفاظ على المصلحة العامّـــة وجب التخلّص منهما بواسطة نظام “الإيوستيتيوم”.
ولكن هل يقبل التّونسيون أن يدخلوا من جديد تجربة الحكم الفردي المطلق تحت تعلّة حالة الاستثناء السياسي والصحّي والاقتصادي؟ ولمن سيسلّمون هذه السّلطة؟ هل يسلّمونها لرئيس الجمهورية الذين يرون فيه صورة المهدي المنتظر وهو يرى في كلّ حدث وحادثة مؤامرة؟ وهل يملك الحلول السّحرية لإخراج البلاد بفريقه الذي أظهر من خلال حضوره الدبلومــاسي والاستشاري والتواصلي عدم معرفة بالدّولة ودواليبها وأساليب الإدارة السياسية؟ أم أنّ الـــــوصول إلى نهاية النّفق من المعاناة يجعلنا نرمي بأنفسنا في متاهة جديدة من الشعبوية القاتلة؟
خلاصة القول إنّ المدافعين عن المسار الدّيمقراطي يحدوهم الأمل في تدخّل القـــــدر الإلهي لإصلاح ما أفسده هوّاة السياسة والدّخلاء على الدّولة بالرّغم من تألّمهم واكتوائهم بلظى الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأمّا دعاة قلب النّظام الحاكم واستعادة دولة من قبل الزّعيم الفرد المخلّص والبطل المثالي الخــــارق الذي يأتي هذه المرّة عن طريق مغازلة حاملي السّلاح ليملأ أرض تونس عدلا ورخاء وحياة بعد أن شاع فيها الموت والفقر والتسوّل يعبّران عن عمق الحيرة وانسداد الأفق في الخلاص.
Comments