حراك 25 جويلية .. رفض لحكم حركة “النهضة”
شعبان العبيدي
هناك جملة من الأسئلة الّتي يمكن أن تطرح: لماذا فشلت أحزاب الإسلام السياسي في ثــــورات الربيع العربي؟ ولماذا تجد هذه الأحزاب التقليدية رفضا لها ومقاومة في كلّ التحركات الاحتجاجية الاجتماعية رغم الاختلاف الكبير بين البلدان العربية على مستوى ما قطعته الدّولة الحديثة مــن أشواط في ترسيـخ مبادئ المجتمع المدني والفصل بين الدّولة والدّين؟ مـــا هي الأسباب التي جعلت حــــركة النّهضة الّتي استعادت حياتها بفضل ثورة الربيع العربي وبدايتها من تونس تجد نفسها بعد عشـــــر سنوات منبوذة؟
النّهضة تاريخ من الرّفض:
منذ أن تكوّنت في جماعتها الأولى في شكل الجمـــاعة الإسلامية في بدايات ثمانينات القرن الماضي مثل حركة دعوية بقيادة مجموعة من السلفيين الذين جمعهم مشروع الدّعوة إلى الإسلام، ثمّ لم يلبثوا أن التحق بهم راشد الغنّوشي.
وهو محمّل بتجارب سابقة تردّد فيها بين اعتناق الفكر القوميّ النّاصريّ والفكر اليساري في مرحلة ما بعد الهزيمة، لينقلب بعد زيارته إلى فرنسا إلى حضن الجماعات الدّعوية الإسلامية. وكانت الجماعة قد تأثرت برموز الحركة السلفية الجديدة التي ارتـــــدّت عن السلفية الإصلاحية لعصر النهضة.
وكان الإعلان عن تأسيس حركة الاتّجاه الإسلامي سنة1981 مستفيـــدة من مناخ الانفتاح والتعدّدية المعلن عنه في تلك الفترة، ليبدأ تاريخ من المواجهة بينها والسلطة الحداثية. تتالت إثرها المـــــــلاحقات والمحاكمات والصفقات طيلة فترة الحكم البورقيبي. ثمّ المحاكمات في عهد الرّئيس الراحل بن علي، الّتي ظنّ معها الجميع أنّ الحركة اجتثت وجفّفت منابعها.
لكنّها في واقع الأمر واصلت عملها في الخفاء شأنها شأن الأحزاب الأخرى الممنوعة من النّشاط السياسيّ العلني واستطاعت أن تعقد مؤتمــــــراتها وتكســب مزيدا من التعاطف ليس نتيجة القناعة الشعبية لدى مناصريها والمتعاطفين معها بأفكارها ومشــــــاريعها ولكنه في الواقع تعبير عن رفض الاستبداد وتعسّف السلطة وخنق الحريّات وسياسة التّجويع الّتي انتهجها نظام بن عليّ. لتتمكّن الحركة من العودة إلى السّاحة السياسية بفضــــــل ثورة 14 جانفي / يناير 2011 وتتصدّر المشهد السياسي وتكون مؤثرة فيه.
دواعي الرّفض:
كشفت الأحداث التّاريخية المتلاحقة الّتي عرفتها الحركة جملة من الحقائق الّتي جعلت الموقف الشعبيّ الرافض لها يتنامى، منها ما هو خارجي مرتبط بالصّراع بين القوى الحداثية المؤمنة ببناء الدّولة الحديثة وعلمانيتها، ومنها ما هو داخليّ يعود إلى التّناقضات الّتي تحملها الحركة في أحشائها فكرا وممارسة ورؤية، والّتي ستظهر ندوبها مع صعودها إلى الحكم لتكون سببا في بداية نهايتها التراجيدية، خاصّة بعد حراك 25 جويلية/ تموّز وارتداته الدّاخلية عليها، والّتي بدأت تخرج من التكتّم إلى الاعتراف بتحمّل الحركة فشل تجربة الحكم منذ الثورة، وتحمّل رئيسها مسؤولية الأزمة السياسية الوطنية وأزمة الحركة، من ذلك:
***
انبناء مشروعها على احتكار الإسلام والكلام باسمه وقيام أدبياتها على تحقيق مشروع الخلافة وتطبيق أحكام الشريعة، وهو ما كان يخيف التّونسيين وخاصّة الفئات المتعلّمة بالعودة إلى الوراء وخســـــران مكاسب الدّولة الوطنية الحديثة التي أرسى دعائمها الزّعيم الراحل الحبيب بورقيبة مع ثلة من الوطنيين المستنيرين.
وتصدّي الأحزاب اليسارية والحزب الحاكم لمشروعها السّلفيّ الإخواني، وتوظيف كـــلّ وسائل الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب لتوجيه حرب لا هوادة فيها ضدّها وخاصّة ضدّ زعيمها راشد الغنّوشي الّذي يعتبره الزّعيم الحبيب بورقيبة عدوّه اللّدود الذّي نعته أكثر من مرّة بالخائن وعدوّ البلاد ورمز النّفاق، وكان متمسّكا بإعدامه. تورّط الحركة في أحداث عنف مريعة لم يعرفها المجتمع التونسي وكان يراها غريبة عنه، وأهمّها حادثة باب سويقة، ثمّ تفجيرات سوسة وصولا إلى قضايا الإرهاب والتّسفير رغم تبرؤ الحركة منها واعتبارها تشويها لها. ولا شكّ أنّ استمرار توجيه هذه التّهم لها في المنابر الإعلامية والحركات الاحتجاجية أفقدها صورتها المثالية الّتي سعت إل ترويجها طيلة عقود وجنت منها خزّانا انتخابيا هامّا، ما فتئ يتآكل مع سقوط أوراق التوت من على وجهها.
***
النفاق السياسي في تعاطي الحركة مع السلطة واختيارها طريق المناورة والنّزعة الميكيافلية من خلال عقد صفقات تسوية في عهد مزالي والتّرحيب بانقلاب السابع من نوفمبر ظنّا من رموزها أنّ هذا التكتيك هو وسيلتهم للتمكين.
فحين قدم بن علي لم يتوان راشد الغنّوشي في الثنـــــاء على بيان السّابع من نوفمبر والاستبشار بدخول تونس مرحلة من الدّيمقراطية، وكان ذلك في الخطــــاب المســــــــوّق إعلاميا وطنيا وخارجيا، ولكنّه كان في الخفاء يعدّ العدّة لدخول الانتخابات وتحقيق الفوز في مـــــرحلة لم يكن بن علي يحظى بمقبولية واسعة ليصل إلى السّلطة، ويتخلّص من الجنرال، وذلك كان برنامجه.
وعلى هذا المنوال في تقديم مصلحة طموح الشيخ باسم حركته على الانخراط في خدمة المشروع الوطني ظلّ أبناء الحركة بصقورهم وأتباعهم يسيرون بأوامر الزّعيم الشبيه بالولي الفقيه في الأدبيات الشيعية الإيرانية، وهم يرون فيه المخلص والمنقذ ورمز العفاف والاستقامة.
تسلّط الولي الفقيه:
كشف الغنّوشي خـــــلال مسيرته السياسية وخاصّة خلال المحن التي دفع ضريبتها الأتباع من الفقـــراء والجياع والطلبة عن نزعة الخلاص الفردي وإمعانا في الذّاتية، ففي الــــوقت الذي كان يأخذ سبــل النّجاة والفرار واختيار المنفى في البلاد الأوروبية، سقطت جرّاء مكابرته وعناده وتشبّثه بافتكــاك السّلطة عن طريق الانقلابات أرواح مئات من أبناء الحركة وتمّ التّنكيل بآلاف العائلات.
ورغم تداول الكثيرين على رئاسة الحركة في مرحلة غيابه فإنّه بقي متمسّكا بأنّ يكون الزّعيم الأوّحـد وصاحب الأمر والنّهي. واستطاع أن يكوّن له بطانة سوء تحت عباءة التقوى الزائفة تمكّن له من الانفراد بالــرّأي والزعامة ورسم الخيارات. وكان مآل كلّ من يعارضه ويحمّله مسؤولية ذلك الإقصاء والتّهديد باستعمال العنف. وتلك كانت طريقته في تصفية خصومه.
واعتبر كمال الحوكي في حديث له مع بجريدة الصبـاح بتاريخ 23-12-2012 حول استقالته، بأنّه حوّل الحركة ملكا له يتصرّف فيها كما يشاء. وتوالت استقالات القيادات من الصّف الأوّل خلال هذه العشرية لتؤّكد رفضهم للمســـــار الذي اختاره الغنّوشي لحـــزبه، وخاصّة توافقاته الغامضة التي تكاد تكــــون ضربا من المقايضة المصلحية، وانخـراطه فــي المنظومة القديمة التي قامت عليها الثورة ليعيد لها الحياة، ويجعلها تعمل من جديد باعتمادها على الفساد والتّهرب الضريبي والتّهريب وحماية الفاسدين.
مناورات من أجل الوصول إلى السلطة:
ارتبطت عودة حركة النهضة إلى السّاحة السياسية بعد الثورة ودخولها المجلس التأسيسي لصياغة دستور الجمهورية الثانية وصعودها إلى الحكــــم في ائتلاف ثلاثي بالتغاضي عن استفحال ظاهرة المجموعات السلفية في شوارع العاصمة ومدنها وصــــــــدحها بمقولات التكفير وإقامة الحدود ومحاربة قيم المجتمع الحديث، واستقدام مشايخ سلفية أذكت نار الصّراع والخوف المجتمعي من نكسة حضارية وانفتاح باب العنف.
ولم تتعامل حكومتا الجبالي ولعريض مع هذه الظاهرة بما يفترض أن تقوم به لحماية مكتسبات الدولة الحديثة والمجتمع التونسي، لأنّهم رؤوا في هذه الجماعات خزّانا انتخابيا وتحقيقا للشّرع، ذلك القسم من مشروعهم الذي أوهموا بالتنازل عنه، ولكن لم يمنعهم ذلك من أن يأكلوا العسل ويحققوا الخلافة بأيدي غيرهم. وكانت نتائج هذا التضليل والنّفاق السياسي ممثلة في تداعي الضربات الإرهابية على البلاد مستهدفة الجنود ورجال الأمن ثمّ الرموز السياسية. وهو ما وضع الحركة في مرمى الاّتهام.
واستطاعت الحركة في إطار تكتيكاتها البرغماتية أن تضع جملة من رموزها في الصفــــــوف الخلفية وتحجبهم عن الظّهور بعد ما أشاعوه من مواقف سلفية في إطار المجلس التّأسيسي حول قضايا الحريّات والشّريعة وتبرير الإرهاب ونذكر في هذا السياق كلاّ من حبيب اللّوز والصّادق شــــــــورو اللّذين كانا رافضين للتّصويت على دستور 2014 إلاّ بعد توافقات وإقنــاع من رئيس الحركة، رغم تصويت الكتل الحداثية والعروبية والدّستورية عليه بشبه إجماع.
فإنّ شقّا من السّلفيين في النّهضة أعتبروا ” أنّه دستور ولد ميّتا لأنّه مناف للشّريعة”. فلم يكن للحركة من خيار إلاّ دعوة هؤلاء إلى عدم الترشّح من جديد في المحطّات الانتخابية القادمة لإخماد هذه الأصوات وقتيّا. وهذا دليل على أنّ إعلان الحركة على لســـان شيخها خلال مؤتمرها العاشر سنة 2016 لم يكن إلاّ تأجيلا للبعد العقائدي، ومحاولة لتبييض الحـــركة أو كما يقول البعض “علمنتها” وتمكينها من استعادة النّفس. وهذا لا يمكن أن يكون إلا ضربا من النّفاق السياسي والاجتماعي الذي ينزع عن حركة النّهضة المتلحّفة برداء الإسلام والطهورية كـــلّ مرجعية قيمية.
ورغم ما تبع ذلك من تحرّكات ومظاهرات ترفع شعارات تسم الحركة بالإرهاب والتغاضي عن مرتكبيه أو التستّر عنهم أو بتعطيل القضاء والتلاعب بملفــــات قضائية. وبقطع النّظــــــر عن مدى صحّة هذه الاتّهامات من عدمها فقد باتت الحركة تحاول تلافي هــــذا القصف من الدّاخل والخارج، ويحني ظهره للرّياح العاصفة ككلّ مرّة تصل فيها الحركة عنق الزّجاجة.
إنّ دخــــول الحركة تجــــــربة الحكم بعد الثّورة بفضل ثورة الشباب والمهمّشين التي منحتهم حقّ التنّعم بنسيم الحريّة والدّيمقراطية قابلوه بنكران غريب. وذلك حين سعت الحركة وباستبداد رئيسها وتفرّده بالرّاي إلى وضع يـدها على الدّولة ومؤسّساتها، واختــراق أجهزتها بتسمية أبنائها. وأصبح الشّغل الشّاغل لراشد الغنّــوشي اعتبــار الدّولة غنيمة حرب حوّلهـــا إلى مبرّر للنّهب والسّلب وتعميــــق الفساد وحمايــة اللّوبيات التّي عبثت بمقدّرات الدّولة والمجمـــوعة الوطنية.
حراك 25 جويلية .. يفكّك معبد الشيخ:
من رمزيات الحراك الشبابي الذي جاء لتصحيح مسار الثورة المغدورة ليطيح بالائتلاف الحاكم وحكومة المشيشي الفاشلة، ولكّنه صبّ جام غضبه على حركة النّهضة من خلال استهداف مقـــرّاتها في مختلف جهات الجمهورية، محمّلا الحركة مسؤولية تردّي الوضع السياسي والاجتماعي والحكومي، ومعانـــاته الصحيّة والاجتماعية اللّتين أفاضتا الكأس.
وأعطى رئيس الجمهورية إشارة إيقاف نزيف البلاد وحماية الدّولة المتداعية. وجاءت كلمة الرئيس في إعلانه وضـــــــــــع الاستثناء السياسي جارحة تتهم في جلاء الائتلاف الحاكم باستغلال مقدّرات الدّولة والفساد والتستّر على اللّوبيات الّتي تمتصّ خيرات البلاد ودماء عموم الشّعب.
حاول زعيم حركة النّهضة في حركة مقاومة ليلة الصّدمة أن يتوجّه إلى البرلمان وأن يطالب الوحدات العسكرية بفتح أبوابه ولكنّه لم يفلح، وأظهر نفسه مع مجموعة من النّواب في صورة مذلّة كان يمكن أن يتفادها في أخريات حياته لو أنّه غادر المشهد السياسيّ منذ عودته من الخارج مثلما أعلن، لكن يبدو أنّ تعطّشه للسلطة والزّعامة جعلاه يدخل المغامرة السياسية في عصر غير عصره وجيــــــل غير جيلـــه.
وحاول الاستنجاد بأتباعه الذين نزلوا قبل في مسيرة مليونية يرهب بها ساكن قرطاج، لكـــــن يبــدو أنّ جموع الفقراء والمنتمين إلى الحزب غلبتهم الصدمة وأعياهم الشيخ بما جعلهم يظهرون عليه دائما مثل قطيع يحرّكهم كيفما يشاء. ليسلّم أخيرا بالأمر الواقع، ويختار الدّخول في معركة خارجية مع قيس سعيد تحت شعار استعادة الشرعية وحماية المسار الدّيمقراطي، بل وصل به الأمر إلى حدّ إطـــلاق تهديدات أكّدت أنّه افتقد الحكمة.
وبدأت تظهر خلال هذا الأسبوع الأول أصوات من داخل المعبد الإخواني تكشف بالحجج والبـــــراهين كيف أخطأ الغنوشي في حقّ حزبه وأتباعه وأيضا في حقّ الدّولة. إذ لم ينكر كثير من الرّموز من خلال كلماتهم أو بيانات الاستقالات تورّط عدد من قياداتهم في الفساد والتعامل مع الفاسدين وتعطيل سير دواليب الدّولة. وبهذا أتّموا بما أوردوه طقوس تأبين الحركة.
وفي الختام لم يبق لراشد الغنّوشي بعد مسيرة سياسية طويلة إلاّ أن يخرج من الباب الخلفي، وأن يقدّم اعتذاره للشعب التّونسي ولمنتخبي حزبه عن كلّ إلاخلالات والتّجــــــــاوزات والمعاناة الاجتماعية الّتي ضيّقت على النّاس معيشتهم، وأودت بحياة الآلاف من مرضى الوباء.
وأن يضع هؤلاء الذين تعلقّت بهم تهم فساد ذمّتهم على القضاء والخضوع للمحاسبة الشّفافة تكفيرا عن الذّنب. حينها يمكن لأبناء الحركة من العقلاء و الصادقين وشبابها من إعادة هيكلتها بعد تقييم عميق فكريّ و سياسيّ.
Comments