عالم الاجتماع رضا بوكراع يكتب عن: “اللحظة الشعبويّة واللحظة الديمقراطية في عالمنا اليوم” /1 من3/
الدكتور رضا بوكراع*
عندما نذكر اللحظة في كلامنا فإننا ننخرط ضرورة في خط فلسفة للتاريخ. فاللحظة هي تاريخية لأنها تندرج في مسار تاريخي إنساني. وبالنسبة لهيجل هذا المسار موجه ويدفع بالإنسانية إلى حرية الذات وتحقيق حرية العقل، والعقل يتحقق عبر مراحل التاريخ ومآله قيام الدولة العقلانية.
تجسم الدولة العقل الذي يتحرر من قيود الدين ويتجسد في الحرية، هذا المسار التاريخي يعمل في أعماق المجتمع، كما تعمل القوى البركانية في جوف الأرض. واللحظة التاريخية مثلها كمثل البركان تشكل في بروزها على سطح الفضاء الزمن Espace-Temps تعبيرة متأججة لِلغليان الباطني الفاعل في أعماق المجتمعات، واللحظة التاريخية هي انفجار الحدث الذي يتحول إلى عنوان للمنعرج الجذري لديناميكية التاريخ.
رأى هيجل في الثورة الفرنسية 1789 اللحظة التاريخية الفارقةـ ورأى هيجل فيNapoléon وهو يدخل مدينة Iena غازيا ممتطيا جواده، تجسيما للعقل التاريخي، ولم يكن هيقل الفيلسوف الألماني الوحيد الذي يتّخذ هذا الموقف من الثورة الفرنسية فكان كانط Kant قد اعتبر الثورة الفرنسية ثورة الفكر الإنساني الذي يفرض وجوده ويتحرر كفكر مستقل بذاته. وقد أصاب كل من هيجل وكانط في تقديرهما، إذ أن القرن الثامن عشر يعتبر القرن الذي تحدد فيه مصير الإنسانية إلى يومنا هذا.
فانطلاقا من القرن الثامن عشر دخلت الإنسانية عهدا جديدا وأرست بناء اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا مازال يشتغل وهذا البناء سمي في وقت من الأوقات حداثة modernité.
فالحداثة تشكلت في القرن الثامن عشر الذي عرف ثورتان أساسيتان، الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية.
ومن غريب الأمور أن تلتقي علوم الأرض وعلوم الاجتماع، فمرحلة Anthopocène التي ابتدعتها مجموعة علماء الأرض لوصف المرحلة التي تمر بها الإنسانية الحديثة والتي تنطلق من القرن الثامن عشر وتتميز عن ما سبقها من المراحل كــــHolocène بأن الإنسان أصبح في هذه المرحلة هو الفاعل الرئيسي في تغيير الملامح البيولوجية والجيولوجية للكرة الأرضية، وذلك نتيجة لنشاطه الاقتصادي والتكنولوجي، خلافا عن المراحل السابقة التي تكون فيها أسباب التحول الجذري للكون أحداث طبيعيّة عملاقة كارتفاع درجة الحرارة أو انخفاضها أو انفجار بركان عملاق ساحق.
انطلاقا من القرن الثامن عشر يمكن القول ان الإنسانية دخلت مرحلة تاريخية تتزامن مع Anthropocène وترتبط عضويا به. هذه المرحلة أُسميها Democène من Demo اي الشعب، إذ انطلاقا من القرن الثامن عشر سيكون لمقولة الشعب كمتصور وكفاعل دور محدد في اشتعال بناء الحداثة.
وارتباط Anthropocène وDemocène يكمن في أن الإنسان سيحرّر طاقاته الخلاقة التي ستؤثر في الطبيعة بل ستهدد توازنها وستفرز نظاما اقتصاديا يُسمّى بالرأسمالية الذي سيكون الإطار المؤسساتي للثورة الصّناعية، وسيبتدع بدوره نظاما سياسيا يكون الإطار الذي يشتغل فيه النظام الرأسمالي الصناعي وهو الديمقراطية، والخاصية الأساسيّة لهذا البناء السياسي، أنّ الشعب تحول إلى مصدر سيادة تعويضا للمرجعية الدينية وما يندرج عن ذلك من مصدر الشرعية السياسية ومن علاقة بين القانون وبين الإرادة العامة، والآليات المؤسساتية لاشتغال البناء السياسي كالفصل بين السّلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وانتشار قيم ترمي إلى المساواة والحرية الفردية والجماعية.
إلى هذا الحد يمكن القول أن هيجل أصاب في توقعاته وأننا نعيش عصرا هيجليا وأن تصور هيجل صحيح، بل إن تفكيره الفلسفي المجرد أدى إلى قيام نظام سياسي هيمن أكثر من ثلثي القرن وهو النظام الشيوعي المحقق للدولة العقلانية البيرقراطية.
إلا أننا نلاحظ انهيار النظام الشيوعي وتعثر الديمقراطية وتعطل العقل التاريخي النقدي أدى فيما بين الحربين ويمكن أن يؤدي اليوم إلى نكسة تاريخية وتأخر حضاري.
يعتبر هيجل من الذين ثمّنوا الثورة الفرنسية وتأصلها في الفكر التنويري وضلوعها في الثورة الصناعية، ولكن سرعان ما ظهرت في ألمانيا نزعة نقدية للثورة الفرنسية ومبادئها التنويرية، وصَاغَ التفكير الألماني مقولتين أساسيتين مقولة الحضارة Civilisation واعتبرها المفكرون الألمان دخيلة ومفروضة من الخارج ومقولة الثقافة Culture المتأصلة في الأرض والوطن وهي تتجذّر في المحلّي وترفض الكوني.
وولّد هذا التيار فكرا فلسفيا متمرداً على العقل التاريخي الهيجلي وتجسم في نيتشة فلسفيا و فقنار في الموسيقى.
كما شكل خذا التيار الأرضية التي مهدت لظهور النازيّة في سياق مسار رأسمالي متأخر عن فرنسا وبريطانيا، والنازية جعلت من الوطن والدولة والعنصرية، الثوابت البديلة للنظام الديمقراطي التمثيلي العقلاني والمنفتح على الكونية.
ويمكن اعتبار الأدب الرومنسي الألماني في القرن التاسع عشر رفضاً جذرياً لمتغيرات الثورة الفرنسية والثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا وتواصلت في فرنسا وHabermas هو المفكر الألماني المعاصر الذي بقي يدافع على الفكر التنويري وقيم العقل المرتبط به، على خلاف الفيلسوف الفرنسي Foucault بينما تورط Heidegger الوجودي مع النازية.
وهذا التيار النقدي للعقلانية تجسم أيضا في فرنسا مع Derrida الذي يستلهم في مشروعه لتفكيك بناء الحداثة déconstruction مستلهماً في نظريته من الفيلسوف الألماني الفيمنلوجي Husserl كما نلمس هذا الاتجاه عند Latour Bruno ذي المعتقد الكاثوليكي والذي نشر كتابا مستفزا بعنوان “نحن لم نعرف الحداثة” حيث يبين كيف أن الحداثة فشلت في محاولاتها للتخلص من الدين.
ومما يسترعى الانتباه ظهور نزعة نقدية في فرنسا لفلسفة حقوق الإنسان والحريات الفردية تجسمت يسارا في الفيلسوف الشيوعي Alain Badiou الذي يعتبرها تدافع على قيم برجوازية ويمينا في Marcel Gauchet الذي يرى في تركيزها على الفرد تقويضا للحمة المجتمعية.
وإذا ما أضفنا إلى تفكيك بناء الحداثة الفلسفية النسبية relativité والبنيوية انتهينا إلى الإقرار باللاّمعرفة أو بانعدام إمكانية المعرفة وهذا ما يهدد الإنسانية اليوم.
وهناك في البلاد العربيّة من يرى في حقوق الإنسان ايديولوجيّة ترمي إلى تقويض المواطنة.
فالحداثة الهيجلية تحمل في طياتها نقيضها وفيما بين الحربين اتخذ هذا النقيض الفكري شكلا سياسيا تمثل في قيام الفاشية في البلاد التي عرفت مسارا إنسانيا واقتصاديا متعثرا كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال ، وتلك الفاشية إنما هي تمرد على الفكر الكوني التنويري الذي نشأ مع الثورة الفرنسية، والذي انبنى على حرية الفرد وعلى العقد الاجتماعي وعلى العقلانية العلمية.
فالفاشية هي إعادة الحظوة للمجموعة على حساب الفرد، والأمة والوطن على حساب الطبقات الاجتماعية، وعلى الهوية العرقية والثقافية على حساب الكونية، وعلى الكليانية والتجانس على حساب التعددية، فهي ردة فعل عنيفة ضد ما تتميز به الديمقراطية من مجازفة، ولا يقين، واحتمال في التداول اللاّنهائي وفي الوفاق المغشوش وفي التنازلات المشبوهة وفي ديمومة عدم الاستقرار، والفاشية تلتجأ إلى يقين الدين والدولة والعرق والماضي المجيد. وهي تنبنى على قيم الرجولة والفتوةُ وتُجسد السلطة العليا في القائد المُلْهَم رافضة فراغ السلطة الموجود في شكل النظام الديمقراطي التنويري المبني على توزيع وفصل السلط والذي يمكن أن يؤدي إلى شلل القرار.
للاشارة فان الفاشية Fascisme والكليانيةTotalitarisme كلمات ظهرت فيما بين الحربين لِوَصف نظم سياسية اشتقت من الديمقراطية وانحرفت عنها.
ولعل ما نعيشه اليوم هو ظرف له نقاط تشابه والتقاء كثيرة مع ما عرفته النظم الديمقراطية فيما بين الحربين.
كما نعايش ظهور كلمات جديدة تحاول أن تصف نظما سياسية منشقة عن الديمقراطية ومنحرفة عنها، مع ضرورة أخذ الفروق المتعلقة بالسياق الاقتصادي والتكنولوجي والجيوستراتيجي الذي يميز عالمنا اليوم.
هذه النظم الجديدة والمتعددة أطلق عليهم اسم نظم شُعبَويّة وهنالك من سماها نظم شعبقراطية peuplocratie لأن demo لا تعني الشعب فقط بل تعني أيضا التراب القومي territoire.
فنحن اليوم أمام جديد قديم، حاولنا فهم القديم اعتمادا على التاريخ، وسنحاول فهم الجديد اعتمادا على الملاحظة الموضوعية لواقع الحاضر، فالشعبوية كلمة جديدة ولكنها تعبر عن كلمة قديمة هي الفاشية. والجديد الجديد هو اللحظة الديمقراطية المتمثلة في الحركات الاحتجاجية الرافضة للديمقراطية المزيفة والمطالبة بالديمقراطية الحق.
Comments