الجديد

عشر سنوات من الثورة….عودة بن علي !

المهدي عبد الجواد

تحل بعد ايام قليلة الذكرى العاشرة للثورة التونسية، التي انتهت بهروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على عجل وفي ظروف ما تزال غامضة، من تونس الى المنفى في السعودية رفقة عائلته المصغرة. وتم في الاثناء القبض على اعداد كبيرة من ابناء “العائلة الحاكمة” وتشرد منهم عدد آخر.

مباشرة بعد الثورة دخلت تونس في “حفل جماعي” لشيطنة بن علي وعائلتيه ورجالات نظامه، والصقت بهم كل تهم الارض ونسبت اليهم كل آثام الشياطين، وبعمليات ممنهجة، وقع حل التجمع الدستوري الديمقراطي وتمت مصادرة املاك وتحجير السفر و تصاعدت حملات “ديغاج” لموظفي دولة كبارا وحتى صغارا، وكان الفصل 15 من القانون الانتخابي الذي يمنع قيادات واعضاء التجمع من المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي ومن عضوية هيئات الانتخابات وحتى مراكزها ومكاتبها العلامة القصوى على عملية “الاقصاء الثوري” لبن على وأتباعه.

دخلت البلاد بعد ذلك في مسار ديمقراطي، وفاز “ثوار اليمين” بأغلبية المجلس التأسيسي، وانهزم “ثوار اليسار”، هيمن على الحياة السياسية اعداء بن علي من النهضة وتفريعاتها المختلفة، وانزوى بعيدا كل الديمقراطيين والوطنيين. وساهم هذا في تواصل شيطنة بن علي وفريقيه العائلي والسياسي، بل تم التوغل في ذلك عبر طرح مبادرة تشريعية لمنع “التجمعيين” من المشاركة في الحياة السياسية واقصائهم نهائيا، فيما عرف ساعتها بقانون العزل او قانون تحصين الثورة.

اليوم وقد رحل بن علي الى الرفيق الأعلى وتوفي الكثير من أفراد عائلته وأعضاده وانحل حزبه يعود بن علي الى واجهة الاحداث، ويتصدر رجاله ومسشاروه المشهد الحزبي والسياسي والاعلامي، ويتقدم حزب تتزعمه قيادية سابقة في حزب بن علي و يذكر بحزبه المنحل، يتصدر نوايا التصويت في عمليات سبر الآراء. انها عملية ملفتة للانتباه، وتثير الكثير من الأسئلة.

اول الاسئلة تكمن في الدافع الذي يجعل التونسيين يستحضرون بن علي في هذه الظروف. ويبدو الامر مرتبطا بالاوضاع الحياتية التي يعيشها التونسيون عشر سنوات بعد بن علي. صعوبات اقتصادية ووضع اجتماعي متدهور وتنامي معدلات الفقر والجريمة وشعور جماعي ب”اليتم” تدفع بهم للمقارنة بين بن علي ومن جاء بعده، مقارنة لا يمكن الا ان تجعلهم يتأسفون على عهده، فقد كان العيش ارفق والاسعار في متناول الجميع والامن مستتب، يتحرك الناس نساء وشبابا في بلد “الامان”.

ثاني الاسئلة يتعلق بالدولة نفسها، فقد كانت متماسكة قوية مهيمنة تبسط نفوذها على البلاد، ويرتفع صوتها ورايتها في الخارج، لها امن قوي وتشتغل المؤسسات والمرافق في تناغم ويشرف عليها خبراء وكفاءات، اما اليوم فان لا شيئ من ذلك بتاتا. ثمة خوف من الخروج للشارع اذ ارتفع منسوب الاجرام الصغير، وضعفت الدولة فتطاول عليها الارهابيون الذي اقتطعوا لأنفسهم جبال الغرب التونسي، وجنح المحتجون الى غلق مواطن الانتاج والطرقات، وانهارت تماما المرافق العمومية وتدهورت الخدمات وتعطلت المؤسسات القضائية والتعليمية والصحية، وفي هذه الحالة تميل الكفة لبن علي ايضا ويتذكر التونسيون فترته بأسى.

ثالث الاسئلة و أخطرها سياسي، فبقدر ما استبشر التونسيون بالديمقراطية وتباهوا بأصابعهم المغمسة بالحبر الانتخابي، فإن كفرهم بها زاد ويزداد كل يوم، اذ لم تجلب لهم الديمقراطية غير “اوجاع الرأس وجوع البطن” و ضجيج وفوضى وانهيار قيمي واخلاقي.

ورغم ان الديمقراطية والحريات السياسية عامة من تعبير وتظاهر واضراب وتفكير وضمير ومعتقد وتنظم لم تكن مطالب التونسيين عامة لكونها “احلاما نخبوية” فان التونسيين انخرطوا في مسارها، وشاركوا في ماراطونات انتخابية، لم تصعد كل مرة لقيادتهم الا اسوأ من ترشح، فلم “ينتخب أحد من نجح” مثلما قال الشاعر العظيم أولاد أحمد. صور النواب والوزراء و الرؤساء و الحكومات والولاة والمعتمدين وكبار الموظفين سلبية جدا، عجز وهوان وفقر معرفي وقيمي واخلاقي، وعدم قدرة على اختلاق الحلول وابتداع طرائق لحوكمة البلاد وحكمها.

صور دفعت عموم التونسيين بعد صبر عشر سنوات الى استحضار صور بن علي ومن حكم تونس معه. كفاءات عالية وخبرات تونسية ادارية واطلاع على الملفات وسرعة تدخل وإنجاز. ولا ينكر التونسيون النقائص والفساد والزبونية التي انتشرت ولا الانتهازية وثقافة “تدبير الراس” التي افسدت نظام بن علي، لكن تطور نفس الثقافة عند من ادعى الثورية ويدعي الطهارة جعلتهم يميلون الى بن علي ويفضلونه حتى في أحلامهم.

هذه النقطة الاخيرة، هي التي تدفع اكثر فأكثر بشخصيات وطنية للتقدم الى صدارة المشهد السياسي، ومغادرة “الظلمة القسرية” التي اجبرت عليها. لقد صار جليا ان من اشتغل مع بن علي، كان في الحقيقة يشتغل في الدولة الوطنية وليس مع شخص بعينه، وبان بالكاشف ان بن علي كان يتخير من التونسيين أكفأهم ليوليه امور التصرف في الحكم والادارة وتدبير شؤون التونسيين.

ان الفشل المعلن لنخب ما بعد 14 جانفي، هو الباب الذي عاد منه بن علي. وانتشار التفاهة وضعف المستويات الاخلاقية وانعدام الكفاءة هو المدخل الذي رجعت منه كفاءات الدولة ما قبل الثورة. ويستوي الحال في ما عدا ذلك، فلم يعد الفساد سمة نظام بن علي وحده ولا العائلية والانتهازية والغنيمة صفته فقد شاركه فيها الثوار ايضا. بقيت الحريات والديمقراطية التي لم يستفد التونسيون منها حد اللحظة، ولعل الامر يتغير اذا ادركنا النجاعة الاقتصادية وغيرنا حياة الناس، وهو ممكن ان تجاوزنا ثقافة الاقصاء وحققها المصالحة واستفدنا ممن تعلم في نظام بن علي ان السياسة “انجاز ونجاعة”

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP