في تراجع “القيمة الاعتبارية” لشهادة الباكالوريا و ” المكانة الاجتماعية” لمؤسسة المدرسة
شعبان العبيدي *
بعد انتهاء الدّورة الرّئيسية للاختبارات الكتابية لاجتياز امتحان شهادة البكالوريا، وما رافقها من لغط و تجاوزات و خروقات خاصّة فيما يتعلّق بقضية الغشّ و آلياته المختلفة الّتي تطوّرت بتطوّر الأجهزة الرّقمية من جهة، و استفحال ظاهرة “كارتيلات الغشّ” الّتي تورّط فيها مربّون و أصحاب شهادات عليا جريا وراء الرّبح المادّي ولو بطرق غير مشروعة، وممتحنون اختاروا أسهل السّبل و أخّفها وطئا عليهم بدلا من العمل الجادّ والمثابرة والتّعويل على النّفس حتّى يجتازوا هذا الامتحان عن جدارة تحافظ على القيمة الاعتبارية والعلمية لهذه الشّهادة، وتضمن بالفعل مسألة تكافؤ الفرص أمام الجميع.
خلال هذه الأيام الّتي تنتظر فيها العائلات التّونسية الإعلان عن النّتائج في ترقّب وخوف لا يبررهما إلاّ تلك القيمة الّتي مازالت تعلّقها العائلة التّونسية على هذه المحطّات التّعليمية، وإن بوطأة أقلّ من السّابق، وهي كلّها شواهد موجعة على ما آل إليه أمر التّعليم بتونس اليوم في مراحله المختلفة، و الأسباب الّتي قادته إلى الانحدار نحو الهاوية، تعبّر كلّها عن حجم الفساد القيمي و المؤسّساتيّ و الاجتماعيّ الذي عصف بالمجتمع التّونسيّ خلال العقود الأخيرة ، في ضلّ ثقافة مهترئة تفتقر لقيم صلبة تمجّد العمل والشّفافية والنّزاهة والرّقابة الذّاتية ومقاومة الفساد. ولا شكّ أنّ غلبة لامبالاة المجتمع والدّولة هي الأرض الخصبة لاستشراء الفساد في النفوس والأفعال والأعمال.
بعد استكمال المحطّة الأولى من هذا الامتحان الوطنّي وانتهاء مرحلة الإصلاح في المراكز الجهوية، وانتظارا ليوم الفصل الذي نرجو أن تكلّل فيه جهود المتعلّمين والمربّين بالنّجاح وتمكّن المؤجّلين في الدّورة الثانية للتّدارك من اللّحاق بزملائهم النّاجحين في الدّورة الأولى، نريد ّأن نقف في هذا المقال على أسباب تراجع القيمة الاعتبارية والعلمية لشهادة البكالوريا في المخيال الشّعبيّ عامّة ولدى الغالبية من النّخبة.
في تراجع “القيمة الاعتبارية” لشهادة الباكالوريا و لمؤسسة المدرسة
نصادر من البداية على مسلمّة جليّة للعموم وهي المتمثّلة في تراجع دور المدرسة أو المؤسّسة التّربوية في بلادنا بعد ما كانت منذ الاستقلال وما قبله منارة لمحاربة الجهل وتكوين كوادر تونسية قادرة على خدمة البلاد، وكان ذلك من خلال تعميم التعليم مع دولة الاستقلال ومجانيته والبرنامج التّربوي المتكامل لمحمود المسعدي، هذا إضافة إلى ما حظيت به المدرسة لدى التّونسيين من قداسة واحترام لأنّها مثّلت بالنّسبة إلى الغالبية العظمى من الفئات الفقيرة والمتوسطّة مصعدا اجتماعيا للخروج من دائرة الفقر والحاجة والأميّة.
وأصبح تعليم الأبناء مقدّسا تحرص عليه العائلة التّونسية إلى حدّ الهوس. لذلك كانت مراحل الاختبارات الوطنيّة مثل “السيزيام” و”البكالوريا” محطّات مشهودة تعمّق مشاعر قداسة المدرسة ودورها في خدمة المجتمع والدّولة.
لكنّ تتالي عمليات الإصلاح بعد ذلك وتسييسها، سواء خلال التّسعينات وخصوصا في ظلّ حكم دولة حزب التّجمع خلال عقدين من الزّمن وسعي الحكومات المتعاقبة إلى إفراغ هذه المؤسّسة التربوية من كلّ نشاط تربوي وإبداع معرفيّ بل حرصت جمعيها على تهميشها وفتح الباب أمام خوصصة التّعليم من جهة، ثمّ التّغافل عن رعاية هذه المؤسّسات التّربوية وحمايتها وضرب قيمتها الاعتبارية لدى التّونسيين لتصبح عندهم وخاصّة المدرسة العمومية مدعاة للسّخرية و الاحتقار و التبرّم.
وهذه بعض الظواهر الّتي أخلّت بصورة المدرسة وجعلت دورها يتراجع نتيجة الاهتزاز القيميّ من جهة و تفاقم ظاهرة التسرّب المدرسيّ و انتشار بطالة أصحاب الشّهادات، نجد ترجمته هذه الأيّام في ما يهزج به أطفال من المدارس الابتدائية من مواويل تعبّر عن الاحتقار للمدرسة (لا ستيلو لا كرّاسة ملاّ راحة من الدّراسة) بما أنّ المدرسة التّونسية لم تخرج طوال تاريخها الحديث عن التصوّر النابلونيّ لها باعتبارها فضاء لتخريج كوادر لخدمة الدّولة لا فضاءات للإبداع ومرافقة المتعلّمين و مساعدتهم على بناء الشّخصية المستقلّة و الإبداع و النّهوض بأدوارهم التّاريخية حسب لحظتهم و فضائهم الخاصّ والعام.
أمّا الوجه الثاني لهذه الأزمة حسب ما يشير إليه يوسف بن صالح في دراسة منشورة بمجلة دراسات حول أزمة التّعليم في تونس، فيتمثّل في اهتزاز البعد القيمي الذي كانت المدرسة التّقليدية حريصة على ترسيخه في النّاشئة، وانتشار ظاهرة “سلعنة التّعليم” من خلال تفاقم ظاهرة “كارتيلات الدّروس الخصوصية” الشبيهة “بكرتيلات مافيا المخدّرات”، وأساليبها في الإشهار القائمة على تشويه بقية المربّين وادّعاء العرافة و الكمال، وليس ذلك بغريب مادامت المدرسة صورة مصغّرة لما ينخر المجتمع وشبكة علاقاته القيميّة في ضلّ استشراء الفساد العام والتحوّلات العالميّة.
وهو ما أنتج ما يسمّيه الباحث يوسف بن صالح ” ظاهرة الأنوميا” التي تترجم غياب المعايير النّاتجة عن تلك الفجوة الكبيرة بين أهداف المدرسة وبين الوسائل المتاحة لتحقيقها، وتعاظم الشّعور بالقنوط وعدم الرّضى ممّا آلت إليه المدرسة والحياة الاجتماعية عامّة من تدهور.
ذلك أنّ كلّ الاختلالات الّتي تجري في الفضاء التّربوي تلقي بضلالها بالضّرورة على مختلف المجالات الأخرى. و نشاهد مخلّفاتها في انتشار العنف الاجتماعي والسياسيّ والفساد وفقدان الضّمير المهنيّ ومفهوم الواجب ومختلف القيم المثلى.
تراجع صورة ومكانة المربي/المدرس
نشير في المستوى الثالث إلى مسألة ذات بال، ألا وهي تراجع المكانة المعيارية والاجتماعية للمربّي. وهي ظاهرة ساهمت في خلقها والعمل عليها مختلف الحكومات المتعاقبة عبر تاريخنا الحديث، إذ تناست مختلف البرامج الإصلاحية مخاطر ضرب قيمة المدرّس وتهميشه وجعله في الدرجات الأخيرة لسلّم التّأجير ممّا حوّل فئة المربين في مختلف درجات التعليم وصولا إلى التّعليم العالي إلى الفئة الأكثر فقرا وتضرّرا في ضلّ التّحوّلات الدّاخلية والعالمية.
بل عملت الوزارات المتعاقبة بمعية الإعلام وردّا على كلّ التحرّكات الاحتجاجية التي خاضها رجال التّعليم إلى التّشهير بهم وتشويههم وتحميلهم تبعات الضّعف المدرسيّ وضعف التّحصيل العلمي للمتعلّمين.
وهذا ما زاد من منسوب العنف المسلّط عليهم داخل المؤسّسات التّربوية وخارجها. ونتيجة لهذا التّحريض ذهبت القيمة الاعتبارية للمربّي في المجتمع وسقطت هالته التي كانت في المخيال الاجتماعي.
المدرسة ضحية “الانقلاب القيمي”
كلّ هذه العوامل الّتي وقفنا على بعض منها تعتبر أسبابا أساسية لتهاوي قيمة شهادة البكالوريا وتراجع القيمة الاعتبارية للشّهادات العلمية وكذلك للعملية التّربوية وللمؤسّسة التّربوية العمومية أساسا، هذا إضافة إلى الانقلاب القيميّ الذي نمّى لدى الأسر ظاهرة مساعدة أبنائهم على الغشّ.
وبهذا ندرك كيف يؤدّي الانقلاب القيميّ إلى اهتزاز الصّورة المجتمعيّة النّاصعة التي كانت لمكانة المدرسة ووظيفتها ولمكانة المربّي الذي فقد هذه الصّفة وتحوّل إلى مجرّد موظّف. ويبدو أنّ مشاريع إصلاح المنظومة التّربوية الّتي رافقها جدل كبير منذ الثمانينات وصولا إلى مرحلة محمد الشّرفي وانتهاء بالكتاب الأبيض على شاكلة الكتاب الأبيض المسموم الّذي قُتل به الملك يونان في حكاية شهرزاد، ما هي إلاّ عمليات تسييس للعملية التّربوية.
إذ كشف أحد أعضاء الجامعة العامّة للتعليم الثانويّ أيّامها كيف كانت تجتمع هذه اللّجان الّتي أُريد لها أن تكون تشاركيّة منفتحة على كلّ المنظمات والجمعيات المدنية والاجتماعية أنّ المشاركين فيها من القطاعات الأخرى عادة ما يحوّلون كلّ حوار إلى تهجّم على الأساتذة و الدّخول في خطابات مطلبيّة لا علاقة لها ببرنامج إصلاح التّعليم، وهذا يعود في تقدري لسبب آخر مفصليّ ومؤثّر في مزيد تشويه صورة المدرسة و الخروج بها عن أهدافها التّربوية وهي “الفتونة النّقابية” والتسيب النّقابيّ الذي باتت تتبعه بعض النّقابات القطاعيّة.
فلا خروج من هذه الوضعية المأسوية للمدرسة والمربيّ، و إعــادة القيمة للشّهــــــــادة العلمية وقيمة الامتحانات الوطنية والتي يمكن مراجعتها النّظر إلى أشكال أخرى من التّقييم في مقاربات بيداغوجيّة عصرية، إلاّ بإعادة الاعتبار للمدرسة والمربيّ والتّكوين البيداغوجيّ الجدّي الذي يأخذ بأساليب العصر.
Comments