الجديد

في ذكراها الثامنة: "ما اكبر الثورة ما أصغر الدولة"  

امين بن مسعود  
“ما أكبر الثورة ما أصغر الدولة” قد تكون هذه العبارة للشاعر الفلسطيني محمود درويش الأكثر تلخيصا للواقع التونسي بعد 8 سنوات من أحداث ما اصطلح على تسميته بالثورة التونسية.
دون سقوط في القراءة الكمية أو المقاربة الإمبريقية التي تعطينا أرقاما خائبة وأخرى صائبة مقارنة بالواقع المعيش, ودون سقوط في مطبات القراءات التفاؤلية أو التشاؤمية لمسار السنوات الثماني من عمر الثورة, فمن الواضح أنّ تونس دخلت مرحلة سياسية واقتصادية تقطع مع كلّ ما سبق, تفرض على الجميع إعادة التقييم والنقد وفق منطق الثورة ومنطوق السياق الانتفاضيّ.
بمعنى ادقّ, من المجانب للصواب أن نحاسب الثورة بمنطق زمن بورقيبة وبن علي, حيث كانت المقايضة الوطنية كامنة في الاستبداد مقابل الأمن والحدّ الأدنى من التنمية والرفاه, ومن المجانب للحقيقة أيضا مقاربة إنجازات الثورة بمنطق الأرقام الاقتصادية والإحصائيات الرقمية ومقارنتها بما كانت عليه الأحداث سابقا, ذلك انّ للثورة حقيقتها وميكانيزماتها وأفق تغييرها وزمنها في تغيير الترسبات وفلسفتها في التاصيل والتأسيس.
بالإمكان الركون إلى الأرقام التي يتكرم بها علينا المركز الوطني للإحصاء, في حال ما أردنا أن نجلد فعل الانتفاضة والتغيير, وبالإمكان أيضا أن نتذرّع بالإحصائية الضعيفة للتنمية حتّى نلعن فلسفة الرفض والتغيير والتثوير, بالإمكان أن يصفي البعض منا حسابهم الطويل مع الثورة وأن يأخذه الحنين والشوق إلى “نوستلجيا الاستبداد والفساد المركّب والهيكلي”, ولكن في حال ما أردنا أن نحكم على ما حصل في تونس أولا وأن نقيم مساره ومسيرته فلابدّ أن ينظر إليه ضمن سياقات ثورات الشعوب انطلاقا من أوروبا الغربية والشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية.
وفي حال ما سعينا إلى مقاربة ما حصل من تغيير للنظام وبداية تشكّل دمقرطة ناشئة ومؤسسات دستورية وإجراء 4 انتخابات عامة (تاسيسية وبرلمانية ورئاسية ومحلية) خلال 8 سنوات فقط, مقارنة بما تمّ إنفاقه من الدماء ومن مصالحة بين سرديات الدولة العميقة وأنصار الثورة ومقارنة بما حصل في دول أوروبا الشرقية, فمن الواضح أن القراءة تميل إلى صالح التجربة التونسية, سواء من حيث النتائج أو التكاليف الجماعية والتاريخية والاقتصادية.
الإشكال الحقيقي والعميق في تونس اليوم, كامن في التناقض القائم بين الزمن الثوري والزمن الاقتصادي والتنمويّ, وهما زمانان مختلفان, فالاقتصاد يحتاج إلى الاستقرار والأمن وقلة الاضطرابات الشغالية, في حين أنّ الزمن الثوري محكوم بالاحتجاج والرفض والإضرابات والمظاهرات, وهنا بالضبط تحتاج تونس إلى تعديل بين الزمنين, وإلى توفيق بينهما.
في الأثناء, هناك ثقافة تترسّخ بصورة ناعمة لدى التونسيين, ثقافة الإصداع بالرأي في المحامل الإعلامية والاتصالية, ثقافة تعرية الفساد حتّى وإن كان متغلغلا صلب الدولة بحكم التراكمية, ثقافة الدفاع عن الحريات السياسية والمدنيّة, ثقافة المحاسبة والدعوة إلى تغيير الوزراء وإقالتهم, ثقافة معارضة الفاعل السياسيّ والدعوة إلى إسقاطه عبر صناديق الاقتراع فحسب.
في المقابل, هل يعني هذا الإقرار أنّ تونس محصنة من الاخطار؟ وأنّ منجز 14 جانفي / يناير مؤمن من التهديدات؟ بطبيعة الحال لا.
أكثر ما يهدّد مسار الثورة اليوم, كامن اساسا في “غياب الأمل” و”ثقافة الإحباط” التي تغلغلت لدى الكثير من الشباب الذين يرون العطب الاقتصادي والتنموي عاجز عن مسايرة أحلامهم وتطلعاتهم, وتقديري أنّ أهم الاستحقاقات اليوم كامن في صناعة الأمل واجتراح الحلول للشباب العاطل عن العمل.
أكثر ما يهدد مسار الثورة اليوم أيضا, كامن في “غياب ثقافة التعايش” لدى البعض من التيارات السياسية وسعيها الدائم إلى الاستئصال وإيمانها الدائم بوهم “البيان رقم1”, لتصفية الخصم السياسي وهي تعرف أو لا تعرف أنّها ستكون الصيد الثاني والفريسة الموالية في حال استقدام العسكر أو أعوانهم والسيناريو المصري ليس منا ببعيد.
أكثر ما يهدد الثورة اليوم, هي عدم تحوّلها بعد إلى ثقافة عامّة, فالفشل الاقتصادي والمالي, وتعثر مسار المصالحة الوطنية, والفشل النسبي لهيئة الحقيقة والكرامة في الوصول بالتونسيين إلى بحر التعميد المجتمعي والتاريخي الشامل, كلّها تتهدد مسار الانتفاضة الشعبية.
ولكن ما يطمئن في المقابل – على وجاهة كل ما قد قيل- أنّه لا بديل للتونسيين سوى إنجاح وإكمال المسار, وهي قناعة لدى كافة الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين, ولا خيار للبلاد والعباد سوى “الحوار” و”تحمّل بعضنا البعض” و”الاحتكام إلى الصندوق” مهما بانت الشقة السياسية والإيديولوجية بيننا ومهما تآمرت عواصم الخارج على تجربة سياسية لا تزال وليدة وفي خطواتها البكر…
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP