الجديد

كتب المهدي عبد الجواد: في ذكراها…. الثورة الملعونة

كتب المهدي عبد الجواد

بعد ثلاثة عشر سنة من هروب بن علي، تآكل تدريجيا رصيد الثورة، وصار أغلب من كان “يدّعي بها وصلا” يتبرّأ منها، علانية وسرّا. وبعد إن كان الجميعُ يتدافعون على اقتسام مربعات شارع “الحبيب بورقيبة” ويحجون إلى سيدي بوزيد، لم يعد لأي منهم ذكرا ولا حضورا. حتى الشوارع و الأنهج والساحات التي حملت أسماء الثورة صارت نسيا منسيّا. فما الذي حدث حتى صار الحديث على الثورة “وصما” يتجنّبه الجميع؟ وما الذي حدث حتى تخلّى “أباء الثورة” عليها؟

لعلّ التباين التام الذي نشأ بين “النّخب السياسية” وأبناء الهوامش، منذ بداية مسار الانتقال السياسي، كان الخطيئة الأصلية التي عنها نشأت كل الخطايا، والمقدمة الملعونة التي انتهت إلى لعن الثورة نفسها، ولعن كل ما نتج عنها. فقد انخرطت النخب السياسية والحزبية منذ فيفري 2014، في مسار من “التناوش السياسي” لم يتوقف هرجُه الا مساء 25 جويلية 2021، بل وما يزال متواصلا وإن بشكل أقل أهمية.

فبينما كان “أبناء الهوامش” ينتظرون اصلاحات اقتصادية واجتماعية تقود الى تنمية وكرامة، كان مطلب الأحزاب والسياسيين والمنظمات إصلاحات سياسية تقود إلى هيمنة على السلطة ومفاصل الدولة، وبين تطلعات الناس ورغائب النخبة كان الشرخ يزداد والقطيعة تتعمّق حتى وصلنا إلى حال اللامبالاة التامة التي نراها اليوم، والتي حوّلت يوما كان يُفترض أن يكون يوم افتخار إلى يوم ملعون.

وثمة في تقديرنا ثلاث مكونات أساسية تتحمّل مسؤولية في ما آل إليه حال البلاد وحال “التنصّل من الثورة” وهي القوى الحزبية والنخب السياسية، و الاتحاد العام التونسي للشغل ومعه قوى المجتمع المدني ثم رجال الأعمال.

الأحزاب والنخب السياسية… الهواة السلفيون

شهدت تونس بعد “الثورة” طفرة حزبية تُذكّر بفلم “عودة المومياء”، فقد عادت الحياة فجأة لتنظيمات سياسية واحزاب سياسية كانت في “سبات” تاريخي. واستغلت مجال الحرية لتتشكّل بطريقة متعجّلة وتنخرط في صراعات ايديولوجية “سلفية” لا علاقة بها باهتمامات التونسيين/ات ولا بانتظاراتهم.

ملل ونحلُ وطوائف إسلامية وقومية وماركسية منغلقة على نفسها، يقودها تصور استئصالي لبعضها البعض، تتحرك في فضاء ديمقراطي دون أن تكون ديمقراطية. وخاضت صراعا مريرا انتهى بها اليوم إلى الإنكفاء على أنفسها والانسحاب التدريجي من الفضاء العام، ولاذت بالصمت بعد صخب، وهو أمرْ يستحسنه اليوم عموم التونسيين. كما أن بعض القوى السياسية من التي نالت ثقة الناخبين/ات التونسيين/ات ووصلت إلى الحكم أو إلى البرلمان أو البلديات، برهنت على سلوك سياسي غير منسجم مع “إيتيقا الثورة” ولا شعاراتها من نزاهة ونظافة يد وحسن حوكمة للإدارة والدولة، بل إنها أمعنت في مواصلة إدارة الشأن العام بطريقة أكثر “بشاعة” مما ثار الناس عليه، فعمّت تعيينات الولاء وهيمن التعامل بمنطق الغنيمة، وارتفع شان الانتهازيين وتغييب الكفاءات. وقاد ذلك إلى هذا الشعور المدمّر عند طيف واسع من التونسيين بالخديعة وسوء الحال.

 اتحاد الشغل والمجتمع المدني… لعنة الماضي

لم يكن اتحاد الشغل يعتقد أن المزاج العام سينقلب عليه بعدما كانت مقارّه المحلية والجهوية ملجأ المتظاهرين ومنطلق المسيرات الاحتجاجية، ثم مقرّا لاجتماعات الأحزاب والقوى المدنية في منعطفات كبيرة طيلة المرحلة السابقة، لعل أهمها لقاءات الحوار الوطني.

لقد تخلى اتحاد الشغل تدريجيا على دوره باعتباره “وسيطا” ليتورط بطريقة مباشرة في الفعل السياسي والاجتماعي. وحتى وإن ادعى عدم انخراطه في السياسي اليومي، فإن عموم التونسيين يحملونه مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وبعد إن كان “النقابي” نموذجا حيا للوطني النزيه صار اليوم موصوما بالفساد وتخريب البلاد.

كان صوت الأمين العام مجلجلا وهو يتوعد الحكومات والوزراء، ومرتفعا وهو يضع الخطوط الحمراء، وكان النقابيون يخوضون الإضراب تلو الآخر ويعطلون الدروس ويحجبون إعداد التلاميذ، ويمنعون اشتغال المؤسسات العمومية ويقفون أمام كل إصلاح جوهري يمس منظومات الإنتاج أو الإدارة.

اليوم يجد الاتحاد نفسه وحيدا، وحتى شعار الثورة الذي كان يلتحف به، لم يعد له نفس البريق. ومثل اتحاد الشغل كانت عمادة المحامين طرفا رئيسيا في بعض ما يحصل، ومازال التونسيون يتذكرون صور المحامين وهم يتسلقون أسيجة البرلمان رفضا لقانون المالية. ومثلهم رابطة حقوق الإنسان التي استولى عليها طيف سياسي افقدها أهميتها التاريخية.

وذلك شأن جمعيات المجتمع المدني المتهمة بالتبعية للخارج والحصول على تمويلات مشبوهة. كل هذه القوى تخجل اليوم من الحديث على الثورة لانها بعيدة على أهدافها وقيمها.

رجال الأعمال… الريع الجبان

حرّرت الثورة نظريا “رجال الاعمال” من سطوة الدولة ونفوذ بعض من عائلات الحُكم، وبدل أن ينخرط رأس المال التونسي في مسار إنتاج الثروة واصل في نفس سياساته الاقتصادية التقليدية. فلم نر فعلا حركية استثمارية، ولم تعرف دواخل البلاد مشاريعا جديدة. وبالعكس من ذلك انخرط الكثير من رجال الأعمال في “العمايل” بمواصلة التهرب الضريبي والجبائي، وربط علاقات مع عوالم الأحزاب والسياسيين، والانخراط المباشر وغير المباشر في “تكنبين” السياسة، وكانت النتيجة تخريب العملية السياسية برمتها، وتعطيل الاستثمار وتوقف عجلة النمو والتنمية.

اليوم تجد تونس نفسها عاجزة على الاستفادة من قطاعها الخاص المشلول والخائف، مثلما تجد نفسها محرومة من الاستثمار العمومي والخارجي. ولعل حال منظمة الأعراف خير دليل على ما يعانيه قطاع الأعمال من أزمة، تجعله لا يستفيد من مناخ الحرية الذي اناحته له الثورة.

خاتمة

 نحن في المحصلة أمام نتيجة طبيعية لعبث القوى الرئيسية في البلاد طيلة ثلاثة عشر سنة. فلا أحد منها اكتفى بلعب دوره الرئيسي والتاريخي، لذلك تداخلت الأدوار والمهام، فتلخبط كل شيء وضاعت البلاد والديمقراطية والاقتصاد وصارت الثورة لعنة على أهلها ملعونة على ألسنتهم. وتكفل إعلام عمومي ضعيف وخاص خاضع لرغبات “باعثي القنوات” بإتمام حلقة الفشل العظيم، زادت وسائل التواصل الاجتماعي في تكريس محتوى التفاهة والاشاعة والمحتوى الذي يلعن كل شيء.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP