لقطع الطريق أمام الاستبداد «الديني» والدنيوي : المحكمة الدستورية هي أمّ المعاركِ
بقلم : الهاشمي نويرة
تابعنا ككلّ خلق الله حوار رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي على احدى القنوات التلفزية ، وقد كان حوارا ودّيا للغاية وتحضيريا في الغالب ويبدو أنّ الهدف منه هو التدرّب على خطط مستقبلية ستكشف عنها الجولات القادمة من هذا المشهد السياسي المهزلي الذي فُرِضَ علينا فرضا.
تابعنا الحوار ولن نخوض في تفاصيله ولكنّنا سنتناول نقطة نقدّر أنّها أساسية وهي في علاقة بالمحكمة الدستورية.
وبَدْءًا لابُدّ من توضيح أَمْرٍ ضروري وهو بمثابة الخطإ الشائع والمتمثّل في الإقرار الخاطئ -أو لنقُلْ غير الدقيق – بأنّ مجلس نواب الشعب صاحب السلطة الأولى والأصلية يُمكن له بمقتضى ذلك أن يُشرّع لأيّ قانون متى أراد وقرّر ذلك ، والصواب هو أنّ مجلس نواب الشّعب يمكن له القيام بذلك في نطاق احترام مقتضيات الدستور والتي تُمثّل حدّا لا يمكن لأيّ جهة أن تتجاوزه ، وهذا الرأي أكّده مرارا فقيه القانون الدستوري الذي لا يُشَقُّ له غبارٌ سليم اللغماني.
وبالمناسبة هناك التقني في مجال القانون وهناك المهندس أو الفقيه ، اللغماني أعزّكم الله هو الأقوى – وأنا أعي ما أقول -في مجال تأويل القانون لأنّه جعل منه إختصاصا وهو من أبحر في أمّهات الكتب القديمة واستأنس إلى أصحابها الثابت منهم في فكره والمتحوّل ثمّ إنّي لا أعرف من عاش أكثر من سليم اللغماني المأساة والمعاناة الفكرية والفلسفية لأحد مؤسّسي فلسفة التأويل ابن رشد وهو إلى ذلك مستوعب لمدارس التأويل الحديثة ويكفي أن نذكر أن ميشال تروبير كان أحد خمسة ناقشوا رسالة دكتوراه ، ولذلك لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
اللغماني قال «إنّ الدستور هو قيدٌ على الجميع ، ومن أراد أن يتصرّف على غير مقتضيات الدستور وجب عليه تعديله أوّلا»وبالتالي فإنّ اعتبار مجرّد وجود المجلس النيابي كافيا لحلّ كلّ المشاكل بما في ذلك تقديم حلول تعويضية لغياب مؤسّسات دستورية مفصلية في المنظومة السياسية ومن ذلك المحكمة الدستورية هو أمْر يجانب الصواب وإنّ التمسّك بهذا الرأي المجانب للحقيقة قد يُنَزَّلُ في باب سوء النيّة.
وليست المرّة الأولى التي يعتقد فيها البعض أنّ مجلس النواب يمكن له القيام بكلّ شيء وهذا البعض يجد في كلّ مرّة في أشباه فقهاء القانون الدستوري من الإنتهازيين واللاهثين وراء المنافع ، من يسند هذه الآراء والمواقف بفتاوى «دستورية».
ومرّة أخرى ينبري الغنوشي مردّدا هذه الإسطوانة وهذا الرّأي الذي يُعطي الإنطباع بأنّه وحركته حريصان على حُسن سير المؤسّسات وهو لذلك ، يُجدّد أوّلا الدعوة إلى الإسراع بتركيز المحكمة الدستورية ثمّ هو يقدّم بديلا في حال تعذّر ذلك لأسباب معقّدة، فأمّا عن تركيز المحكمة فلا نراها نحن دعوة صادقة ما دامت مشروطة بالمحاصصة التي تضمن لحركة النهضة السيطرة على هذه المؤسّسة المحورية في المنظومة السياسية والقانونية وما لم يكن اختيار قضاتها على أساس الكفاءة وحدها، وأمّا عن البديل الذي قدّمه الغنّوشي وأكّدته النهضة في بيان لها والمتمثّل في «ادخال تعديل على قانون الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين لتتولّى اختصاص المحكمة الدستورية»
فهو بديل غير دستوري في كلّ الحالات لأنّ صلاحيات الهيئة هي صلاحيات مُسْنَدَةٌ بمقتضى نصّ دستوري ولا يُمكن تعديلها إلّا بتعديل نصّ الدستور ، وهي رحلة طويلة جدّا لو غاب هذا عن عِلْمِ البعض، هذا أوّلا وثانيا، هناك قضيّة الخَتْمِ، لأنّ الأمر يبقى في الأوّل والأخير بيد رئيس الجمهورية فهو الذي سيختم هذا القانون بعد إتمام كافة المسائل الإجرائية أو هو لا يختمه إمّا لاستحالة موضوعية أو لِرَفْضٍ له والرّأي عندنا أنّ رئيس الجمهورية والحقوقي أوّلا لا يمكنه التوقيع على قانون غير دستوري وهذه الفرضية تمثّل حدّا إضافيا لسلطة مجلس نواب الشعب الأصلية وهناك بعض الحدود الأخرى لمن لا يعلم ذلك.
والمشكل بحسب رأينا أنّ حركة «النهضة» هي شديدة الوعي بأنّ تركيز محكمة دستورية على أساس الكفاءة والكفاءة وحدها هو البوّابة الرئيسية لضمان دولة القانون والمؤسّسات وهو ما يُضعف شخصنة المنظومة السياسية ورضوخها لإرادات الأشخاص وأمزجتها المتقلّبة ونزوات الأحزاب وأجنداتها ويفتح الطرق أمام تونس للإنضمام النهائي للنادي الديمقراطي الذي استعصى على دول محيطنا الإقليمي والحضاري.
كلّنا يتذكّر أنّ رئيس حركة «النهضة» قال ذات يوم كلاما مرّ القوم عليه مرور الكرام ، كانت تونس حينها في حالة جدل شديد بين أصحاب مشروع أوّلي للدستور، مشروع رأى فيه المدافعون عن النموذج التونسي الحداثي تأسيسا لضرب مكاسب دولة الإستقلال ، يومها وتحت ضغط المجتمع المدني والنّخب السياسية والحزبية تراجعت النهضة وجنحت الى توافق اضطراري، الغنوشي قال يومها :«ليس المهمّ القانون بل الرّجال الذين يطبّقون هذا القانون» وهو كلام يستبطن أشياء خطيرة ليس أقلّها أنّ من يَحْكُمُ هو من يُؤوِّلُ القوانين ومتزامنة النصّ توافقيا ويتحمّل أكثر من معنى
وما دامت النهضة في موقع الحُكْمِ والتأويل فكفّتها راجحة ولذلك فإنّ تركيز محكمة دستورية يُنْظَرُ إليه على أنّه مُعادٍ لنمط حُكْمٍ فردانيّ أو استبداديّ وتشترك كلّ أنماط الحُكْمِ الإستبدادي في معاداة تركيز مثل هذه المحكمة الدستورية مكتملة الصلاحيات .
إنّ الديمقراطية كلّ لا يتجزّأ وهي واحدة موحّدة في أصولها التي لا تقبل التنسيب أو الإستثناء وإنّ معركة المحكمة الدستورية هي أمّ المعارك من أجل ديمومة الديمقراطية والقطع النهائي مع الاستبداد الديني والدنيوي وأمْرُ خوْض هذه المعركة ننزّله فَرْضَ عَيْنٍ على كلّ مواطن يريد للمواطَنَةِ أن تدوم .
الصحافة اليوم
الجمعة 05.07.2019
Comments