نتائج الدور الأول للرئاسيات .. بداية التهافت الاعلامي و السياسي !
هشام الحاجي
فاجأت نتائج الدور الاول للانتخابات الرئاسية التونسية عددا كبيرا من المتابعين للشأن العام من سياسيين و اعلاميين و “ناشطين ” في الجمعيات و فضاءات التواصل الاجتماعي و دفعت بعضهم للتعبير عن مواقف اقل ما يقال عنها انها لم تكن منتظرة .
لا شك ان التعبير عن المفاجأة و ربما الذهول يدعو الى محاولة فهم اسبابه و دلالاته ما دام المنطق يفرض الاشارة الى ان الفعل السياسي يخضع لمنطق واضح و ان السياسة العصرية تقوم بالأساس على الرصد و التوقع .
و لا شك أيضا ان صعود قيس سعيد و نبيل القروي الى الدور الثاني لم يكن مفاجئا اذ تصدر الرجلان منذ اشهر عمليات سبر الآراء و اظهرت استطلاعات الراي و نتائج الانتخابات البلدية تراجع دور الاحزاب السياسية و تقلصا رهيبا في جماهيريتها و قدرتها على شد التونسيين علاوة على ان “المنطق الانتخابي” يفرض في كل الديمقراطيات سواء كانت ناشئة او مستقرة صعوبات اكبر على الاحزاب التي تكون في السلطة .
هذه المؤشرات لم تثر اهتمام مؤسسات الدولة المعنية بالتقاط الاشارات و تحليلها رغم الاهمية الاستراتيجية للحدث الانتخابي و لم تحث المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية مثلا على البحث عن المسالة في تعقدها لان مديره العام تخلى عن البعد الاكاديمي و تعاطى مع الاشياء من زاوية الفاعل السياسي .
كما أن نتائج الدور الاول للانتخابات الرئاسية كشفت ايضا “العلل” التي يعاني منها الحقل الاعلامي في تونس اذ اكدت ثلاث حقائق على الاقل .
اول هذه الحقائق يتمثل في ضعف و ضبابية في مستوى التأطير القانوني و المؤسساتي للحقل الاعلامي و هو ما فتح الباب امام انزلاقات و ممارسات اقل ما يقال عنها انها في تعارض مع شروط الاستقلالية و انها تؤكد ان “الهايكا ” قد تجاوزها الزمن .
الحقيقة الثانية تتمثل في غياب صحافة استقصائية حقيقية في تونس رغم تكاثر ادعياء المنتمين لهذا الاختصاص . لو كان لدينا صحافة استقصائية لتم البحث في شبكات الاسناد الواضحة و الخفية لكل من نبيل القروي و قيس سعيد لان الرجلين قد عملا منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات على اقامة شبكات من الداعمين و الناشطين على امتداد التراب الوطني و في كل الاوساط .
الملاحظة الثالثة تتمثل في ان اغلب القنوات التلفزية قد تابعت الحملة الانتخابية كطرف انحاز لهذا المترشح او ذاك .
مما تقدم يعني ايضا ان نتائج الدور الاول من الانتخابات الرئاسية قد اثبتت عقم اهم مؤسسات الدولة في التعامل مع العوامل الظاهرة و العميقة و هو ما يثير مخاوف جدية حول القدرة على التقاط ما من شانه ان يمثل خارج السياق الانتخابي تهديدا جديا للأمن الوطني و يعني ايضا ان الاعلام السائد مدعو لمراجعة اليات اشتغاله لأنه جزء من المنظومة التي “عاقبها” الناخبون و احد اهم مكوناتها .
كما أن الظاهرة الحزبية تستدعي ايضا اعادة نظر في اليات اشتغالها لان الاحزاب السياسية هي اداة هامة من ادوات النظام الديمقراطي و غيابها يفتح الباب امام ما يراه البعض شكلا من اشكال “الديمقراطية المباشرة” في حين لا يعدو الامر ان يكون في جوهره الا فتحا للباب امام الفوضى و مزيد اعاقة اداء مؤسسات الدولة مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات سلبية على حياة المواطنين و لا اعتقد ان سياسيا عاقلا يرغب في ان تتحول تونس الى جمهورية “اللجان الشعبية” .
ان الاحزاب السياسية ظلت لحد الان متمحورة حول “طموحات افراد” اكثر مما هي مشاريع لرؤية جماعية و هو ما اعاقها وقلص من فاعليتها و جعلها في وعي المواطنين اداة لخدمة تطلعات بعض الاشخاص و واجهة لاستعراض المال السياسي و البهرج المصطنع الذي لم يعد يغري التونسيين .
و لا شك ان نجاح قيس سعيد و نبيل القروي قد عرى حقيقة عدد من “المقاولين السياسيين ” الذين برزوا بعد 14 جانفي 2011 و ادعوا انهم ابناء “ماكينة ” و انهم قادرون على تعبئة الراي العام و تجنيد الناخبين و الناخبات في المدن و الارياف .
هؤلاء ساهموا في الزج بعدة شخصيات في “محرقة انتخابية” يصعب ان يستعيدوا بعدها قدرتهم على الفعل السياسي و بعضهم لا يرف له جفن و هو يحاول الانتقال من مركب يوسف الشاهد او عبد الفتاح مورو او عبد الكريم الزبيدي الى سفينة قيس سعيد او نبيل القروي من خلال انقلاب فيه اعلى درجات الصفاقة في المواقف و الآراء .
و من اكبر الاكاذيب التي كشفتها نتائج الدور الاول للانتخابات الرئاسية الاعتماد المطلق على “خبراء في الاتصال” فاقدين للحد الادنى من المهنية و الثقافة السياسية اعتبروا المترشحين دجاجة تبيض ذهبا و هو ما ادى الى السقوط المدوي لكل من لم يستفد من اخطاء اطاحت منذ 2011 بسليم الرياحي و نجيب الشابي لان الناخب التونسي الذي يعاني الحرمان و يرفض التباهي و التعالي لا يرتاح لمن تطل صورته على كل الاماكن بما في ذلك المزابل التي تكاثرت و التي قد تكون نتائج الدور الاول دعوة للتخلص من كل انواعها.
هشام الحاجي
Comments