هل يستطيع الندائيون التوحد دون الرئيس السبسي ؟
المهدي عبد الجواد
تتغيّر المعطيات السياسية في تونس بسرعة كبيرة، حيث يعيش التونسيون منذ 2011، تكثّفا للتاريخ، حتى لكأنهم يستدركون السّبات التاريخي الذي عرفوه طيلة عقود، بفعل هيمنة الحزب الواحد و الرأي الواحد و الحاكم الأوحد.
لقد سبق و ان اشرنا في أكثر من مقال الى سيناريوهات ممكنة استعدادا للانتخابات التشريعية و الرئاسية القادمة، و لكن شيئا لم يحصل. و تواصل الجدل “الصامت” و الترقّب المشوب بحيرة الناخبين الكبيرة، و استمرّ صمت الباجي قائد السبسي، المُستجير ببعض “فصول” الدستور التي تجعله بعيدا على المناكفات الحزبية.
أعلنت هيئة الانتخابات على رزنامة الانتخابات التشريعية و الرئاسية، و صار التعلّق بإصلاح نداء تونس من الماضي، فقد فشلت كل محاولات إصلاحه من الداخل. و تبخّرت كل الآمال المعقودة على “الباجي قائد السبسي” الذي يمتلك وحده مفتاح ذلك الإصلاح، فأصل المُشكل هو “ابنه و جماعته”. فلا الدعوة الى قيادة مشتركة مع حافظ وجدت صدى، و لا الدعوات لقيادة مستقلة وجدت إصغاء و لا تمكين هيئة انتخابات المؤتمر من قيادة المرحلة وجدت اهتماما. فشلت مبادرة لم الشمل في إصلاح الحزب مثلما فشل المراقبون و الإعلاميون و الفاعلون الاقتصاديون و الاجتماعيون و الديبلوماسيون و قوى الضغط، فشلوا جميعا في إقناع الباجي بما لا يحتاج أصلا الى إقناع او برهان، ان مشكل النداء يكمن في قيادة ابنه له.
ان تمسك الابن و يبدو ان من ورائه الأب، بالاستيلاء منفردا على الحزب و الهيمنة عليه ، جعل الثقة في الرئيس الباجي تتناقص، بل انها صارت اقرب الى الاستحالة، حتى ان بعض المراقبين شرعوا في التحدث علنا على انتهاء السبسي سياسيا. فانحياز الرئيس لابنه قلّص من حياديته، و نزع عنه دور “زعامة” العائلة الديمقراطية، مثلما كان الأمر خلال سنوات تأسيس النداء الاولى، التي كان فيها نجله “الحافظ” موجودا ، عنصرا في الصورة فقط، مع قيادة تتحمّل كل شيء، و تقوم بكل شيء.
ثم ان الحديث عن عزم الباجي الترشح للرئاسية صار مصدر انزعاج لم يعد خافيا، وطنيا و خارجيا، إذ انه لم يعد “ضرورة” و لا “لائق” سياسيا، هو طلب يدفعُه اليه الانتهازيون و المستفيدون من قربهم من ابنه و من “باتيندة” النداء. و ترشح الباجي ان حصل سيكون انقلابا على ما تعهد به سنة 2014، بان لا يُجدد ترشحه، ثم انه سيجعل منه “متوحدا” سياسيا لأنه ترشّح لا يخضع لأية قراءة موضوعية و عقلانية للساحة السياسية و الحزبية و الاجتماعية و لا للمزاج الشعبي العام ، فقائد السبسي لا يمتلك أدنى مقومات المشاركة الجدية في الانتخابات ناهيك على امكانية الفوز بها، من تلاشي حزبه، وهجرة قياداته التي صنعت انتصاره الانتخابي السابق، وتشتت ابناء النداء و مؤسسيه و مناضليه بين “القبائل” الحزبية، زد على ذلك ان النموذج الجزائري ليس بعيدا على الأذهان.
لم يعد الباجي في المحصّلة يمتلك “هوامش” كبيرة للمناورة. فقد كان لبعض أشهر، أو حتى أسابيع فائته، ممسكا ببعض خيوط اللعبة، و سنحت له فرص كثيرة، ليُصبح الزعيم و يخرج زعيما، لكن “شخصنة” معركته مع الشاهد، و انقلابه على “تعهدات” أطلقها مع رضا بلحاج و محسن مرزوق و أشهد عليها نورالدين الطبوبي، في علاقة بابنه في حزب نداء تونس، أفقدته فرصة القيام بدور تاريخي. كما ان غموض علاقته بحركة النهضة، فمرّة يُفاوضها سرّا و طورا يُهدّدها علنا، أفقده حتى دوره الوطني الحيادي.
ان ما تقدم يجعل قيادات النداء التي خرجت عليه و أسست أحزابا أخرى، و كذلك جماعة الإصلاح من الداخل، بل و لجنة إعداد المؤتمر و مناضلي النداء وطنيا و جهويا و محليا، داخليا و خارجيا، في حلّ من كل الالتزامات السياسية او الأخلاقية مع الباجي. لقد عمل كل واحد منهم على “لم الشمل” و إعادة إحياء النداء، باعتباره الرافعة الموضوعية للمشروع الوطني العصري، بروافده المختلفة، و بما فيه من رغبة في بناء حزب ديمقراطي ذي حوكمة رشيدة، قائم على الرغبة في إعادة تجديد المشروع الاصلاحي، و بناء دولة العدل و الرفاه و الكفاءة، بعيدا على “الزبونية” و العلاقات العائلية. و لكن كل دعواتهم و محاولاتهم فشلت. لم يعد الزمن الانتخابي يسمح للكثيرين بانتظار استفاقة الباجي التي يبدو انها لم تكون. و لذلك فان العمل على إنقاذ المشروع الوطني صار امرا مُلحا دون الباجي و دون ابنه و صحبه.
غير ان هذه العملية ليست بالبساطة التي تبدو في كثرة الدعاة إليها، إذ انه تمّ في الحقيقة و منذ سنة 2015، استهلاك فكرة “التجميع” لان الكثير ممن يدعو إليها، يعمل على يكون هو محورُها، أي ان يكون التجمّع حوله و به و بزعامته.
ان هدف توحيد او تجميع الجزء الأعم من العائلة العصرية أمر معقّد، الطريق الى تحقيقه مليء بالنزعات الفردية و نوازع الأنانية و حب الذات و الرغبة في التزعم. فجميعنا يتذكّر ان نداء تونس في اصله هو عملية توحيدية بين تيارات وطنية أربع، أُفُرض ساعاتها أنها قامت جميعها بما يُشبه المراجعات التاريخية، لأخطائها التي راكمتها طيلة فترة الاستبداد، دستوريون و نقابيون و يساريون و ديمقراطيون، و قام الباجي ساعتها بدور “التحكيم” بين هذه الروافد الأربع، لكن “وهم المراجعات” سقط في أول امتحاناته بعد الانتخابات، و تخلّى الباجي قائد السبسي على دوره التحكيمي، فتهاوى نداء تونس. و فقد السبسي الأب و السبسي الابن بفعل المعطيات الموضوعية و الذاتية، و بحكم ضغط الواقع السياسي و مستجداته دورهما في المرحلة القادمة.
لقد حانت لحظة ما بعد الباجي، تمنى الكثيرون، و أنا منهم ان يقوم الباجي بقيادة “مرحلة الانتقال” الى جيل جديد و إلى مرحلة جديدة، و تسليم المشعل الذي طالب به منذ 1969، حتى يحفظ له التاريخ هذا الدور مثلما سيحفظ له دوره سنة 2011، في حماية الدولة و سنة 2014 في اعادة التوازن، لكن “عواطف الأب كانت أقوى من حاجيات الوطن”.
ثمة “حتمية” موضوعية و حاجة وطنية تكمن في ضرورة تجميع النداء دون “السبسي”. ان يلتقي تحيا تونس بزعامة يوسف الشاهد و مشروع تونس بقيادة محسن مرزوق و تيار لم الشمل للمكتب التنفيذي لندا تونس الذي يتقدمه رضا بلحاج و حزب المستقبل للطاهر بن حسين و بني وطني لسعيد العايدي، في ائتلاف بينهم، لم يعد مجرد سيناريو “مُتخيّل” بل صار ضرورة وطنية، و ضرورة انتخابية. ان يلتقوا جميعا، مع جهودهم الخالصة للانفتاح على باقي مكونات المشهد “الوسطي” كحزب البديل للمهدي جمعة و آفاق تونس لياسين ابراهيم و المبادرة الدستورية لكمال مرجان، يفتح للتونسيين مرحلة أمل جديد في اعادة التوازن الانتخابي و ضمان الاستقرار الوطني، لإعادة اطلاق مسار الاصلاح الوطني، و تجديد المشروع العصري الاصلاحي.
مرحلة ما بعد الباجي يبدو انها يجب ان تبدأ، مرحلة ما بعد “نداء السبسي” سيناريو آخر ضروري حانت لحظته. و صار الخروج من عباءة الباجي، و من مرحلته حتمية انتخابية و ضرورة وطنية، أليس “الوطن قبل الأحزاب، و الأحزاب قبل الأشخاص” مثلما كان الباجي 2014 يُردّد ذلك؟
هو سيناريو ممكن و ضروري لفائدة الجميع، و لفائدة تونس خاصة.
Comments