الاستفتاء .. بين الشعبوية و نزعات الانقلاب على الشرعيات
المهدي عبد الجواد
لم تعُد الأصوات المُنادية بإجراء “استفتاء شعبي” بخصوص مراجعة النظامين الانتخابي والسياسي معزولة أو خافتة. فقد صارت لها مؤخرا تنسيقية وطنية عقدت ندوة صحفية وأعلنت انطلاق “حملة شعبية” لفرض إجراء استفتاء علاوة على إطلاق عرائض على مستوى وطني وحتى افتراضي، لخلق “ديناميكية شعبية” تفرض هذه المُمارسة الديمقراطية. وتأتي هذه “التنسيقية” لتدعم التوجّه العام لرئيس الجمهورية قيس سعيد، ناهيك أن حسام الحامي منسق ائتلاف صمود، تحدث صراحة على وجود تنسيق غير مباشر واتصالات مع رئاسة الجمهورية.
وبقطع النظر على مناقشة قائمة الأسماء التي تقف وراء هذه المبادرة، ومدى “المصداقية” التي تحظى بها لدى الرأي العام الشعبي الوطني وحتى الخارجي، فإن المناداة بالاستفتاء تظل مسألة إشكالية تحتاج تدقيقا وتحليلا عقلانيا بعيدا على المُزايدات “الشعبوية” ومُخاطبة غرائز “الجماهير” التي شرعت في الكُفر تدريجيا بالديمقراطية والحرية وبدولة المؤسسات وارتفع عندها منسوب العزوف على الاهتمام بالشأن العام.
فلسفة الاستفتاء… تقييد الشعبويات
تُمارسُ الشعوب “سيادتها” عبر الانتخابات البرلمانية والاستفتاء الشعبي، وهُما في الحقيقة وجهان للمُمارسة الديمقراطية التي تُعبّر على حرية الإرادة الشعبية، وهما العلامة الواضحة على مشاركة الشعب في تحديد مصيره ومستقبله السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولا يُفرّق المُشرّعُ في ممارسة السيادة بين هذين الآليتين الديمقراطتين لكنه فرّق بينها من جهة الترتيب والتقييد. فقد جاء في الفصل الثالث من دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014 ” الشعب هو صاحبُ السيادة ومصدر السلطات، يُمارسها بواسطة مُمثّليه المنتخبين أو بالاستفتاء”.
لكن المُشرّع وإن أطلق عملية الدعوة للانتخابات فقد قيّد اللجوء للاستفتاء، حتى صار استثناءً له شروط وقواعد ومبادئ نظرية وغالبا ما يكون حقا سياسيا يُقّرر لصاحب الحق رئيساً أو برلمانا أو حكومة سلطة تقديرية في استعمال هذا الحق من دون مراقبة قضائية على اقتراح الاستفتاء إلا في المواضيع المحظورة دستوريا. ووضع قيود وشروط تحدّ من سهولة اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي يعود للوعي بمدى خطورته على استقرار المؤسسات وعلى وجود وديمومة العمل السياسي والديمقراطي برمّته.
وتحصرُ الدساتير عامة مجالات الاستفتاء، في مسائل سياسية أو قانونية أو دستورية. وهي مواضيع مُعقّدة تحتاج معارف ومهارات وقُدرات تمييزية يمتلكُها فقهاء القانون والدستور وخبراؤهم، ولا تتوفّر عادة في البرلمانات وعند نواب الشعب الذين يلجؤون للخبراء لفهم هذه المسائل، فما بالك بها عند عموم الشعب. ومن العبث استسهال الحسم فيها واحدة (نعم أو لا) من دون نقاش. وتذهبُ دول مثل فرنسا ومصر إلى حصر حقّ اللجوء للاستفتاء لتحديد الجهة التي تختصّ به – رئيس أو حكومة أو برلمان – بممارسة حق اقتراح الاستفتاء والإجراءات التمهيدية ومجالات ومواضيع الاستفتاء، وتفرضُ ضرورة عرض موضوع الاستفتاء على ممثلي الشعب أولا.. وعلى القضاء إذا كان موضوع الاستفتاء مسائل دستورية.
وفي المُحصّلة فإن الاستفتاء الشعبي، يؤدي في صورة عدم ضبط آلياته ومواضيعه، وعدم إخضاعه للشرعيات والمؤسسات إلى إضعاف المؤسسات ويُهدّد التجربة الديمقراطية وحتى “الوحدة المجتمعية” فهو يؤدي إلى فرض رأي الأغلبية على الأقليات، ويقود إلى التوترات السياسية والاجتماعية إذا “الأقلية” كبيرة. والتعلّل بإعادة السيادة للشعب عند الحديث على الاستفتاء مُغالطة كبيرة، لان مبدأ “السيادة للشعب” يقوم على فكرة السيادة المُجزّأة بين الأفراد وليس على فكرة “وحدة الجماعة/الأمّة” والاستفتاء يُسبح بذلك مدخلا من مداخل الاستبداد إذا لم يتم تقييده وإخضاعه لشروط تُجوّدُ استعمالاته، فالسيادة للشعب في المنظومة الديمقراطية تقوم على مبدأ تخفيف القطائع بين الأغلبية والأقلية، بشكل يضمن وحدة المجتمع والسلم الاجتماعي، في شكل من أشكال “التوافق” لا على المُغالبة التي يفرضُها الاستفتاء.
ضد الاستفتاء… الانقلابية
يشترط الدستور التونسي رأي المحكمة الدستورية عند اللجوء الى الاستفتاء. ويحصرُ الجهة التي لها حقّ المُبادرة بالاستفتاء، إذ ينصّ في الفصول 143/144 على ” لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس نواب الشعب حقّ المبادرة باقتراح تعديل الدستور” ويشترط ان ” كلّ مبادرة لتعديل الدستور تُعرض من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي، في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسبما هو مقرر بهذا الدستور.” على أن “يتم تعديل الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب. ويمكن لرئيس الجمهورية بعد موافقة ثلثي أعضاء المجلس أن يعرض التعديل على الاستفتاء، ويتم قبوله في هذه الحالة بأغلبية المقترعين.”
وبقطع النظر على انعدام الصفة عند دُعاة الاستفتاء الشعبي، فإن غياب محكمة دستورية يجعل كلّ دعوة للاستفتاء غير ذات معنى. ناهيك ان الفقيه الدستوري سليم اللغماني ذهب الى ان “اللجوء الى الاستفتاء خارج شروط الدستور هو خرق للدستور”، بل أكّد أن ” اللجوء إلى الاستفتاء من أجل تعديل الدستور بهدف تعديل نظام الحكم هو تغيير غير دستوري للنظام” وقد يستوجب عقوبات دولية لانه بمثابة تغيير غير شرعي ولا دستوري لنظام الحُكم وإسقاط للمؤسسات، خاصة إذا كان مشفوعا بتغيير للحكومة.
وكان الخبير الدستوري أكثر وضوحا في موقفه من آلية الاستفتاء فقد قال ” منذ سنوات ونحن نتحدث عن الاستفتاء وكأنه الحل لقد أخطأتم في الدستور ” داعيا الى “نسيان” هذه الآلية. وأوضح اللغماني في تدوينة نشرها مساء يوم الاثنين 19 ماي 2020 على صفحته بموقع فايسبوك “ان الدستور الحالي لا يُخوّل اللجوء الى الاستفتاء الا في حالتين وان رئيس الجمهورية يلجأ في كلتيهما للحصول على “رفض شعبي” اما لقانون صوت عليه البرلمان (الفصل 82) او لتنقيح للدستور صادق عليه ايضا البرلمان (الفصل 144) مؤكدا ان الشعب لا يقرر من خلال الاستفتاء وان دوره يقتصر على الاعتراض او تدعيم ما قرر البرلمان”. واشار الى “ان دستور سنة 1959 مكّن رئيس الجمهورية من اللجوء للاستفتاء للالتفاف على البرلمان من خلال عرض مشاريع قوانين مباشرة على الاستفتاء الشعبي ( الفصل 47) او تنقيح للدستور (الفصل 76)
وأضاف ان ما يفسر أحكام الدستور الحالي (دستور 2014) وعدم التنصيص على استعمال آلية الاستفتاء للحسم هي الخشية من مؤسسة رئاسة الجمهورية ومن العودة الى الديكتاتورية والتي قال انها هيمنت على أشغال المجلس الوطني التأسيسي.
وحذّرت الخبيرة الدستورية سلسبيل القليبي ايضا من مغبّة المرور الى الاستفتاء من خارج الدستور، منبهة الى استحالة إجراء استفتاء دون محكمة دستورية او مرور بالبرلمان وقالت ” “اذا كان رئيس الجمهورية يريد أن يتخلى عن دستور 2014 والمرور لانتقال ديمقراطي جديد و إعداد دستور جديد عليه أن يقول ذلك صراحة وليس بالإيماء والإيحاء… هذه الفرضية واردة لكن حينها نكون تخلينا تماما عن الدستور والياته القانونية، التخلي عن الدستوري الحالي عملية خطيرة كثيرا ولا يمكن أن تتم بطريقة سلسلة الا اذا تمت العملية بالاتفاق بين الجميع. هذه العملية خطيرة ولنا أن نتساءل عن مدى مشروعية هذا المسار..”
أما رابح الخرايفي أستاذ القانون والنائب المؤسس فقد قال ان الدعوة بــ “إرجاع الامانه للشعب”، دعوة عامة غير مرفوقة بمقترح اجرائي يبين كيفية تنفيذها. وأضاف إن دعوات المجتمع المدني للجوء إلى الاستفتاء لتنقيح النظام السياسي والدستوري والنظام الانتخابي، التي أطلقها الاتحاد او المجتمع المدني او رئيس الجمهورية لا أسس دستورية لها باعتبار ان الاستفتاء الذين يرغبون اعتماده هو استفتاء يمكن وصفه بالاستفتاء الاستشاري الذي لا قوة قانونية ملزمة له، فضلا على انه غير منصوص عليه في دستور 2014.
ليست مُراجعة الدساتير او القوانين من المحرّمات، بل هي ضرورة مُلحّة كلّما استدعت حياة الناس تطوير التشريعات التي تُنظّم الحياة في المدينة، لكن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها بعض السياسيين وبعض جمعيات مجتمع مدني. ثمة محاولة للمُغالبة ولفرض إرادات “أقلية” على شرعيات انتخابية. لست من السعداء بنتائج انتخابات 2019، بل أجد ان منظومة الحُكم فاشلة برمّتها، رئاسة وحكومة وبرلمانا. واعتقد ان التونسيين يستحقون “حُكاما أفضل من هؤلاء” ولكنهم يستحقون أيضا معارضة أفضل من معارضتنا الحالية. مراجعة المنظومة التشريعية الناظمة للحياة السياسية والمدنية أمر ضروري، فلم تعد مراسيم الأحزاب والجمعيات والإعلام، صالحة بعد عشر سنوات من التجربة التي كشفت قصورها.
مثلها مثل المنظومة الانتخابية وحتى بعض تفاصيل النظام السياسي، ولكن ذلك يجب ان يكون من داخل “الشرعيات” على ضُعفها. تلك ضريبة الديمقراطية، قد تفرضُ علينا التعاطي مع ما لا نُحبّ. كلّ ذلك الممكن، كتب الأستاذ رابح الخرايفي، الذي أضاف أنه ” ليس محرما ان نطلب مراجعة النظام السياسي والدستوري لكن ينبغي أن تكون هذه المراجعة في جو من الهدوء ووفق الإجراءات القانونية سابقة الوضع. التنقيح وفق إجراءات فوضوية لن يقود إلى بناء مؤسسات ديمقراطية”.
Comments