الجديد

جدل حول "الدولة المدنية في المنطقة العربية"

تونس- التونسيون
انعقدت في تونس العاصمة خلال الفترة من 15 إلى 17 ديسمبر/كانون الأول 2018، فعاليات المؤتمر الأول حول “الدولة المدنية في المنطقة العربية: التصور، الواقع، والممكن”، الذي نظمه “المعهد العربي للديمقراطية” الذي يشرف عليه الدكتور خالد شوكات، بشراكة ودعم من مؤسسة هانس زايدل الألمانية، وتعاون مع جمعية الجامعة الخضراء والمركز المغاربي للبحوث والدراسات، وبمشاركة ثلة متميزة من المفكرين والباحثين والشخصيات السياسية والمدنية من تونس وعدد من الدول العربية، مثلوا غالبية التيارات والمدارس الفكرية والسياسية، كما عكسوا تنوع الأجيال والتجارب والتخصصات العلمية والأكاديمية، وهو ما جعل الحوار سواء خلال الجلسات العلمية الخمس أو ورشات العمل التي خصصت للشباب، ثريا وبناءا ومنفتحا على آفاق مستقبلية واعدة.
لقد نوه المشاركون في غالبيتهم بأهمية موضوع المؤتمر، خصوصا في ظل الظروف الصعبة والاستثنائية والمعقدة المهيمنة على المنطقة العربية خلال هذه المرحلة التاريخية “ما بعد ثورات الربيع العربي”، والتي وبقدر ما تميزت بمكاسب مهمّة على مستوى مَطمَحي الحرية والدّيمقراطيّة فقد أدّت في عدّة سياقات إلى تفجير الفتن الداخلية والحروب الأهلية وانهيارات غير مسبوقة للدولة الوطنية ، وعبّرت عن الحاجة الملحة إلى تطوير رؤى ومشاريع وبرامج لإعادة بناء العيش المُشترك والكيانات الوطنيّة على أسس جديدة وعصرية وإنسانية وتستجيب للخصوصيّات التّاريخيّة والثقافيّة للمنطقة، بالمقدور تلخيصها في عنوانين أساسيين: ” الدولة المدنية ” بما هي إجابة عربيّة بصدد التّشكّل على سؤال الدّولة وأزمتها  عالميّا من جهة، والنظام ديمقراطي بما هو مكسب إنسانيّ  من جهة ثانية.
وإذ يغتنم المشاركون الفرصة لتهنئة التّونسيّين بالذكرى الثامنة ل17 ديسمبر 2010، فقد أشادوا بأهمية التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي منذ انطلاق المسار بعد نجاح ثورة الحرية والكرامة في 14 جانفي/يناير2011 سواء في مستوى الخطوات المقطوعة على صعيد بناء الدولة المدنية، أو في مستوى استكمال إقامة مؤسسات النظام الديمقراطي، على الرغم من التحديات الداخلية والخارجية الكثيرة والعقبات المتعددة المبثوثة في وجه هذه التجربة التي تكافح بكل ما أوتيت من قوة لإبقاء جذوة الأمل قائمة والحفاظ على الشمعة الوحيدة الباقية مشتعلة.
إن الدولة المدنية بحسب الاتجاه الغالب على الآراء والأفكار التي جرى تداولها بين مختلف المشاركين في المؤتمر، لا تشكل مجرد خيار للنظر والتحليل والنقاش العام، إنما هي ضرورة مستقبلية وحضارية لا يمكن الاستغناء عنها أو اختيار بديل مقبول لها، فهي من جهة تمثل التسوية الممكنة الوحيدة لما بدا أنّه صراع محتدم منذ عقود بين التيارين العلماني والإسلامي، والذي طالما ساهم في خلق بؤر للتوتر والنزاع والصراع ذي كلفة عالية على شعوب المنطقة ودولها، وهي من جهة ثانية تحول دون قيام أنظمة استبدادية ذات طبيعة عسكرية وأمنية غالبا، عانت منها المنطقة العربية طويلا، وكانت سببا في تعطيل قدرتها على النهوض والتقدم وتحقيق طموحات شعوبها والالتحاق بركب الأمم المتحضرة.
لقد اتفقت وجهات نظر المشاركين إجمالا، على أن الدولة المدنية بقدر ما هي ضرورة للمنطقة العربية لرسم خارطة طريق مستقبلية تعيد لها الأمل في الخروج من أزمتها متعددة الأبعاد، فإنها ما تزال تمثل من الناحيتين الفكرية والسياسية إشكالية تحتاج من رجال الفكر والسياسة وقادة الحكم والمجتمع المدني بذل المزيد من الجهود المضنية، في سبيل تحديد مفاهيمها ومعالمها ومؤسساتها، بالإضافة إلى بيان مبادئها ومضامينها وحدودها والتزاماتها، فمعركة “تأويل الدولة الدينية” وملامح الالتقاء والاختلاف بينها وبين الأشكال المناقضة لها ك”الدولة الدينية” أو الأشكال القريبة منها أو المشابهة لها ك”الدولة العلمانية” أو “الدولة اللائكية”، تظل ورشة عمل مفتوحة أمام الفكر العربي المعاصر يمكن أن تكون سببا في إثرائه وتطوره وحيويته.
إن الدولة المدنية يجب أن تمثل بحسب المؤتمرين، مشروع حلّ حقيقيّ وليس حلا تلفيقيا لشكل الدولة المطلوب في المجال العربي، وهي حل ذاتي يعكس قدرة العقل السياسي العربي على إبداع حلول ذاتية ومتميزة للقضايا الكبرى المطروحة على شعوب المنطقة، كما هي مناط تميز حضاري من وجهة نظر رجال القانون الدستوري، إذ لم تدرج هذه العبارة أو المقاربة في الفكر الغربي بمختلف مدارسه إلاّ في ما ندر ، على الرغم من الالتقاء المضموني والمحتوى النظري مع المبادئ الكبرى التي تقوم عليها الدّول في أوربا وشمال القارة الأمريكية، من قبيل النظام الديمقراطية ومنظومة الحريات وحقوق الإنسان.
ويرى المؤتمرون أن تنصيص تونس والعراق، ورغم الاختلاف بين السّياقات السّياسيّة في البلدين، وربما دول عربية أخرى في المستقبل القريب، في دساتيرها الجديدة بمدنية الدولة وربط ذلك بمبادئ المواطنة المكتملة المتساوية والتشاركية في إدارة الحكم والسيادة الشعبية عبر الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، فضلا عن نبذ كافة أشكال التمييز بين المواطنين سواء على أساس الطائفة أو الدين أو اللغة أو سواها من المعايير الظالمة، تشكل خطوات صائبة في الاتجاه الصحيح، لكنها ما تزال غير كافية وتحتاج إلى تعزيزها باتباع الأنظمة القائمة لمزيد من الإجراءات العملية التي وحدها يمكن أن تضفي مصداقية على هذه التغييرات الإيجابية المطلوبة.
وقد شدد المشاركون في مؤتمر الدولة المدنية، على أهمية التصدي الجماعي للمحددات الفاسدة الموروثة للعقل السياسي العربي بتجلياته المعاصرة، من قبيل “الغنيمة” و” العصبيّة والايديولوجيا المنغلقتين”، وايلاء قيم المواطنة ومبادئها العناية المطلوبة، من أجل بناء مجتمعات “المواطنين” المتساوين في الحقوق والواجبات والفرص، وأنظمة سياسية تجمع بين القدرة على توفير الكرامة الاقتصادية والاجتماعية من جانب، والالتزام باحترام حقوق الإنسان والحريات الجماعية والفردية من جانب آخر، ضمن سياقات إنسانية متوازنة تجمع بين القيم الكونية والحق في الخصوصية الثقافية.
إن مستقبل المنطقة العربية مثلما أكّد على ذلك المشاركون في المؤتمر، مرتبط على نحو وثيق بنجاح العرب في إعادة بناء فضائهم الفكري والسياسي والتنموي على أساس “الدولة المدنية ذات النظام الديمقراطي والمشروع الحضاري الوطني بأبعاده الإنسانية والشاملة والعادلة والمستدامة”، ودون ذلك سيظل هذا الفضاء مستباحا من قبل مشاريع الهيمنة الخارجيّة والتطرف والخراب والعنف والإرهاب.
كما خلص المشاركون إلى ضرورة العمل على التمكين للدولة المدنية في المجال العربي من خلال دعوة الأنظمة السياسية والحكومات القائمة ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وكافة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، على العمل المشترك من أجل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والضرورية، خصوصا في المناهج التعليمية والتربوية والثقافية وأساليب الإدارة والمبادرة الخاصة، في سبيل تكريس مواثيق عامة والتزامات جماعية تنتصر لمقاربة الدولة المدنية والنظام الديمقراطي، وهو ما سيفتح آفاقا للمنطقة العربية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويعزز مساهمة العرب في التوجهات الحضارية للإنسانية بشكل عام.
 
        

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP