الجديد

خالد شوكات يكتب عن: "البؤساء".. أو عندما تهدد الفوضى الديمقراطية

بقلم: خالد شوكات*
كثيرا ما يسوقني الحدس إلى مشاهدة فليم استثنائي، ليس في جودته الفنية فحسب، بل في رسالته الانسانية، وهذا هو الأهم. أقصد هنا فيلم “البؤساء” (les misérables ) للمخرج الفرنسي الشاب من أصل أفريقي/مالي ” Ladj Ly”، الحائز على جائزة لجنة التحكيم خلال الدورة الاخيرة لمهرجان كان السينمائي، وجائزة لجنة التحكيم عادة ما تمنح لفيلم من طينة خاصة ومميّزة، وهو من انتاج هذا العام 2019.
الفيلم مستوحى في رسالته من روح رواية البؤساء للأديب العظيم “فيكتور هيغو” الذي يعيد فشل الانسان الى فشل المربّي، وما احوج البشر في كل زمان ومكان الى استحضار القيم التي دافع عنها هيغو ومن نهل من مدرسة الثورة الفرنسية الأصيلة وقيمها في الحرية والمساواة والأخوة، فما بالنا بفرنسا الراهنة التي تبدو ديمقراطيتها مترنحة تحت ضربات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد عنف التيارات الاحتجاجية والفوضوية، واخرهم ذوي السترات الصفراء، الذين أزاحت مواجهاتهم العنيفة مع الشرطة، اللثام عن أزمة الثقة المتعاظمة بين مؤسسات الحكم ونخبها من جهة، وشرائح اجتماعية تتسع قاعدتها باضطراد وتضطرم في داخلها نيران الحقد الطبقي ومشاعر الغبن والظلم ازاء التهميش والازدراء والتعالي الذي تمارسه عليها مراكز النفوذ السلطوي والمالي
. تبدأ أحداث الفيلم باحتفالات الفرنسيين سنة 2018، عند قوس النصر وجادّة شانزيليزيه قلب العاصمة باريس.
ذات المجموعة المتكونة من شباب الضواحي الملوّنين، التي ستحتفل هناك من أعماقها بفوز كروي عالمي لفريق فرنسي يشبهها تماما بالنظر الى غلبة العنصر الافريقي عليه، هي من ستلعب ادوار البطولة في معركة من نوع اخر، ستشهدها احدى الضواحي، حيث توجد فرنسا الاخرى، فرنسا الفقر المدقع والتهميش الاجتماعي والسكن غير اللائق بالبشر، وباريس التي لا علاقة لها بمباني ضفاف نهر السين الفاخرة وبرج ايفيل والضاحية الخامسة عشرة، بل بمجال حضري هامشي تتقاطع فيه دوائر الشر وتحالف الجريمة المنظمة (مخدرات، دعارة، أسلحة) وأفاعي الارهاب والتطرف الديني التي اطلت برؤوس في قلب الحضارة الغربية وقامت خلال السنوات الاخيرة بإرسال الآلاف من أبناء ضواحي المدن الأوربية ليكونوا عتاة داعش وأكثرهم قساوة ودموية.
قصة الفيلم بسيطة ولكنها عميقة في ان، وما هو لافت ان هذا العمل الفنّي الجميل لم يظلم اي طرف من أطرافه، رجال الشرطة الذين يعملون تحت الصغط ويعرضون حياتهم للخطر في سبيل حماية المجتمع وفرض الأمن والقانون ويضطرون في مسعاهم ذاك الى ارتكاب اخطاء فهم في نهاية الامر بشر، ومجموعة شباب الضواحي ذكورا وإناثا الذين يشعرون ب”الحقرة” وبانهم مواطنون من درجة ثانية يتعرّضون لإهانة مراكز السلطة دون سبب ظاهر، وحتى الجماعات الدينية المتطرفة التي يعتقد أعضاؤها بان الاسلام هو وسيلتها لتعبئة المهمشين في معارك العدالة،
وفي هذا السياق يجد المشاهد نفسه متساميا عن الاحقاد الشخصية والرؤى الضيقة التسطيحية التي ترى العالم أبيضا او اسودا، صراعا بين حق مطلق وشر مطلق، واقفا امام شاشة إنسانية ترى في الانسان أكان شرطيا او مارقا عن القانون، ضحية تربية خاطئة وظروف عامة غير سوية.
الفيلم يُطلق اكثر من صيحة فزع وصفارة إنذار، لعل من ابرزها ان الديمقراطية – حتى وان كانت عريقة كالديمقراطية الفرنسية- ستعجز عن مواجهة الفوضى ان اصرت على العمى ازاء انهيار منظومة العدالة الاجتماعية واتساع دائرة الفقراء والمهمشين، فهؤلاء وخصوصا الشباب منهم، سينظمون انفسهم لقتالها على ارضها بوسائلهم الخاصة التي لا يجب احتقارها، وهذا حال الشرطة الفرنسية التي وجدت نفسها في مواجهة مواطنيها ، دافعة بذلك ثمن الأخطاء التي ترتكبها مؤسسات الحكم
. في المشهد الختامي، الذي تحاصر فيه مجموعة شباب الضواحي ثلاثة من عناصر الشرطة، يحمل قائد المجموعة قنبلة مولوتوف مشتعلة مصنعة يدوياً، يهّم برميها لكنّهُ لا يفعل وقد يفعل.. هذه الخاتمة المفتوحة تعني ببساطة ان قنبلة الضواحي الموقوتة قد تنفجر في وجه الديمقراطية الفرنسية – ومثيلاتها- في كل لحظة ما لم تبادر مؤسسات الحكم الى مراجعة سياساتها المستهترة بواقع الظلم الاجتماعي والتعالي “الهووي” (من هوية) والتهميش الثقافي والانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه فئات من المواطنين الذين يحبّون فرنسا لانه ليس لهم وطن غيرها، فرنسا الملوّنة لا فرنسا البيضاء.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP