الجديد

"السبسي الرجل الذي رفض أن يغلق عليه التاريخ بابه"، شهادة الحقوقي والسياسي سمير العبيدي

كتب: سمير العبيدي
بمناسبة أربعينية الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، أنشر سلسلة من الشهادات حول الرجل، سبق وأن نشرتها في كتابي: “الباجي قايد السبسي .. المشي بين الألغام”، الصادر في مارس 2017، عن دار “ورقة للنشر”، شهادة اليوم للحقوقي والسياسي سمير العبيدي، والتي أختار لها العنوان التالي:”السبسي الرجل الذي رفض أن يغلق عليه التاريخ بابه”
برز الأستاذ الباجي قائد السبسي خلال ثمانينات القرن الماضي بالخصوص، بدخوله «لحكومة الانفتاح» التي قادها المرحوم محمد المزالي باعتباره احد ابرز المنتمين للجناح التحرري في الحزب الاشتراكي الدستوري الذي طالب في بداية سبعينات القرن الماضي، بإحداث تغييرات في طريقة تسيير الدولة والحزب.
واهم ما أتذكره انه أثناء نشاطي القيادي في الحركة الطلابية هي الغارة الاسرائلية الغادرة على منطقة «حمام الشط» ضد القيادة الفلسطينية يوم غرة أكتوبر 1985 حيث نظمنا العديد من المظاهرات الطلابية في شوارع العاصمة، في حين كان وزير الخارجية وقتها الأستاذ الباجي قائد السبسي يشرف على التحرك الدبلوماسي لإدانة العدوان في المنتظم الاممي  بنيورك. كنا نتابع ذلك الحضور بنوع من الإعجاب المخفي والذي لا نريد الاعتراف به.
كما كنا نتابع في ذلك الوقت الوضع السياسي في تونس وخاصة مرحلة «حكومة المزالي» التي شهدت بالخصوص ما سمي «بثورة الخبز» يوم 3 جانفي 1984 والتي كان للحركة الطلابية الدور الريادي في إشعالها في العاصمة، حيث ساهمت في قيادتها وترأس التجمع الطلابي الضخم في كلية الحقوق بتونس الذي التحم بشوارع العاصمة.
ظهرت تصدعات خطيرة في «حكومة المزالي»، وكان الوزير قايد السبسي من العناصر الأساسية التي دعت إلى القيام بالتغييرات الضرورية دون جدوى وكأنّ تونس لم تكن مهيأة وقتها لمرحلة التحول الديمقراطي، بل هي دخلت في أتون الصراع على السلطة وسط اشتداد الأزمة السياسية الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة وعجز الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على مسك دفة القيادة في خريف عمره …
جاء «الزمن النوفمبري» الذي ساندته مختلف القوي السياسية والاجتماعية تقريبا لما مثله من استجابة لطموحات اغلب التونسيين.
ومن الوجوه البارزة التي دعيت من قبل السلطة الجديدة الأستاذ الباجي قائد السبسي،باعتباره احد الرموز البورقيبية الديمقراطية، ليرأس «مجلس النواب»،لكن لفترة قصيرة، دخل بعدها في «سبات سياسي» (Hibernation) معولاّ ربما على الزمن وعلى الأقدار…
وشاءت الصدفة ان التقي بالأستاذ الباجي قائد السبسي سنة 2003، في إطار مهني بمناسبة قضية تحكيم تجاري دولي مقره في باريس، وكنا نمثل، كمحامين، طرفي النزاع.
من الناحية المهنية يعتبر الأستاذ الباجي احد أقدم المحاميين الناشطين، الذين يحلوا لنا تسميتهم ب”شيوخ المهنة” تقديرا واعتبارا
وكان التعامل مع «الأستاذ» من الناحية المهنية ليس بالأمر السهل، فهو ينتمي إلى المدرسة القانونية التي اسميها «السهل الممتنع» والتي تذكرني بالدروس الأكاديمية لأستاذي المرحوم محمد الشرفي.
وأتذكر انه في إطار إجراءات التحكيم المذكور التقيت الأستاذ قايد السبسي وسواء كان اللقاء  في مكتبه أو في مكتبي، كان الحوار بيننا يتجاوز النزاع القانوني ليشمل المسائل السياسية، استمعت مطولا إلى مقاربات إحدى الشخصيات «التحررية» الفاعلة  في «الزمن البورقيبي» بصفتي كأمين عام سابق للاتحاد العام لطلبة تونس وهي صفة كان لها تأثير على أريحية الأستاذ في النقاش معي.
في نهاية 2009 أصدر الباجي قائد السبسي كتابه المرجع «الحبيب بورقيبة : المهم والاهم»، وهو في تقديري من بين أهم ما كتب حول «الحقبة البورقيبية»، كما مثل ذلك الإصدار في حينه رسالة بأن الرجل الذي ينتمي إلى جيل سياسي آخر رفض «أن يغلق عليه كتاب التاريخ الرسمي».
وبحدوث «الزلزال» التاريخي يوم 14 جانفي 2011 أو ما اسميه الحركة الاحتجاجية التي أنتجت «ثورة ديمقراطية» بسبب ان نظام الحكم السابق لم يكن قادرا على فهم استحقاقات الصيرورة التاريخية، إضافة إلى ان التوقيت مهم جدا في السياسة وان توقيت المواقف والقرارات يكتسي صبغة موضوعية تفرض نفسها بآجال قصوى لا تخضع لإرادتنا.
وكانت خطيئة النظام السابق انه عجز عن فهم واستعاب أهمية استباق الأحداث والقيام بالإصلاحات الضرورية، في بلد يتوفر وباعتراف كل القوى الفاعلة داخليا ودوليا، على كل مقومات التحول الديمقراطي.
انتهت إذن صلاحية النظام السياسي بتوفر عوامل داخلية وخارجية. كنت من ضمن الفريق الحكومي الخاسر، رغم انه كان من المنتظر ان العب، مع البعض، الأدوار الأولى في الإصلاح والانفتاح من داخل نظام الحكم، لكني وصلت متأخرا…
شهران فقط بعد 14 جانفي 2011، شاء القدر ان يكون الأستاذ الباجي قائد السبسي، هو البديل، وهو العارف جيدا بالمقولة الشهيرة للجنرال ديقول :  «ان القبور مليئة بالرجال الذين لا يمكن الاستغناء عنهم»، عاد الشيخ التسعيني لمواجهة  حالة من الفوضى العارمة التي كادت ان تؤدي بالبلاد إلى محرقة.
وتم استدعاء قائد السبسي، بعد «عبوره الصحراء السياسية» مدة حوالي عشريتين، هو عاد من زمن سياسي آخر، ليتبيّن بأن الرجل رفض ان يُغلق عليه باب التاريخ، عاد حاملا معه «أسلحة وذخيرة» لا يمتلكها غيره تقريبا،  والتي ستكون سنده وعصاه التي توكّأ عليها لمغالبة ومواجهة «حالة ثورية»، قد تكون غريبة عن تجربته وثقافته السياسية، لكن العائد من بعيد أثبت العكس، باعتبار عديد العوامل أهمها :
** انه نتاج الدولة الحديثة وابن السلطة السياسية التي يعرف «ويمتهن» آلياتها ودقائقها وأسرارها
** انه ابن المدرسة البورقيبية،بل من قادة الجناح “التحرري” داخلها
** انه العارف والعالم بخاصيات المجتمع التونسي وتوجهاته الحقيقية
** انه يمتلك كاريزما قيادية هائلة وقدرة ممتازة على «المناورة» السياسية
ان توفر هذه «الخلطة الكيميائية ـ السياسية» في شخص الباجي قائد السبسي مكّنه من قيادة «المركب التونسي»  وسط أمواج متلاطمة وعواصف داخلية وخارجية، وذلك  بأخف الإضرار فسلّم الحُكْمِ بطريقة سلسة إلى الفائزين في انتخابات 23 أكتوبر 2011، رغم انه كان من المنتظر ان يواصل  مسيرة الحكم من موقع أسمى، لكن حماسة «انتصار» البعض كان لها رأي آخر …
لم تفهم «الترويكا» الحاكمة، ربما، انه لا يمكن النجاح وبناء تجربة حكم جديدة والقيام بانجازات ملموسة للمواطنين، في وطن خرج من «زلزال تاريخي»، وذلك بعزل، جزء هام من المجتمع  وعدد كبير من رجال ونساء دولة وطنيين وأكفاء، بقرار سياسي أو امني أو قضائي، وانه لا يمكن النجاح في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحكم بلد عصري مثل تونس، بشعارات براقة تختصر تقريبا في بضع كلمات «الثورة واستحقاقات الثورة ودولة نصف قرن من الخراب» رغم انها قد تكون نابعة عن حسن نية، لكنها حسن النية، قد يؤدي أحيانا إلى الجحيم …
ربما لم تتفطن «الترويكا»، أو البعض منها، انها لا يمكن ان تنجح في الحُكْمِ وهي التي لا تملك «الأسلحة الأساسية» التي يمتلكها الأستاذ الباجي قائد السبسي، وإنها لم تكن مسنودة من قبل قوى مؤثّرة في المجتمع.، إضافة إلى عدم معرفتها بدواليب السلطة و الدولة وعدم تمكّنها الكافي من آليات وخصوصيات  المجتمع التونسي، وأيضا عدم إعطاء الأهمية لوزن وتأثير قوى متعددة سماها البعض «الدولة العميقة».
لم يفهم البعض أيضا بأن «الثورة الدائمة» هي مفهوم رومانسي لم ينتج في التاريخ سوى «الفوضى الدائمة» أو «الدمار الدائم»، وان الأسلم هو  الإصلاحات الدائمة والديمقراطية الدائمة وما تتطلبه من قواعد ومؤسسات وجب احترامها من قبل الجميع.
لم يدرك البعض ان الدولة والثورة، والديمقراطية والثورة هي مفاهيم غير قابلة للتعايش مع بعضها في نفس الوقت.
لم يكن البعض واعيا بان  14 جانفي هو الحلقة الناقصة في بناء تاريخ تونس الحديث، بمختلف مراحله بايجابياته وسلبياته، المتمثلة في مرحلة الديمقراطية السياسية واحترام الحريات العامة والخاصة، وهذا ما يعلمه «بالضرورة» الأستاذ الباجي قائد السبسي  «البورقيبي الديمقراطي».
كما لم يستوعب البعض الآخر أيضا ان الماضي لن يعود،وان ما وقع يوم 14 جانفي لم يكن «مؤامرة شريرة»، رغم تأثير  «الخارج»، فما حدث كان سيحدث آجلا ام عاجلا في غياب الإصلاحات الحقيقية و الضرورية في توقيتها  المناسب.
وعموما لابد أن يدرك الجميع أن الماضي ليس خيرا كله كما انه ليس شرّا كله.
ان الأمم والأوطان تتقدم بفهم وتقييم وتجاوز سلبيات الماضي، متسلحة في ذلك بأهداف كبرى للمستقبل، وغير ذلك هو مراوحة في نفس المكان وإعادة إنتاج للجمود والفشل، خاصة إذا كانت الرداءة هي سيدة الموقف، فالتاريخ علمنا «ان من لا يتقدم يتأخر بالضرورة،ومن يتوقف عن المسير يخرج من القافلة…»
هل كان الأستاذ قايد السبسي زعيم ثورة ؟ وهل نكون ثوريين في خريف العمر؟هل نكون ثوريين بعد هذه المسيرة الطويلة داخل أجهزة الدولة ومحيطها المخملي؟
لم يذكر التاريخ أبدا الثوريين، خاصة عندما يكونون في السلطة، الا بكونهم تحولوا إلى استبداديين  او إلى «إيقونات مأساة»، التاريخ خلد أسماء المصلحين، وكم هم كثر في تونس …
التقط الأستاذ السبسي الفرصة للمرة الثانية بعد 14 جانفي، أو ما اسميه «ثار التاريخ للفرد»، وأطلق للتونسيين «النداء»، واستدعى التاريخ، والمرجعيات، والمصلحين، والزعيم وصورته ورمزيته، استدعى «الدم والشهادة» للمساهمة في «المعركة» التي استعملت فيها كل الآليات والإمكانيات والدهاء والمكر السياسي، استدعى» الأستاذ قايد السبسي كل عوامل النجاح العصرية للفوز …
جندت الشرائح المؤثرة في المجتمع بأساليب مختلفة ،وأعيد إنتاج صراع «الدولة ـ السلطة ـ الحداثة» ضد «المحافظين، الإسلاميين والمرزوقيين» لكن في إطار ديمقراطي هذه المرة، خلافا للمنازلات التاريخية السابقة في المرحلتين «البورقيبية والنوفمبرية» التي حسم الصراع فيها «قمع الدولة»
أدرك الأستاذ الباجي قائد السبسي، كرجل دولة محنك، و كبورقيبي براغماتي، جيدا أنه لا يمكن له إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي،  و بناء سلطة مستقرة نسبيا وسط الصراع والتطاحن والتموقع القديم، او ان يكون «سجين» البرنامج والقطب الذي شكله للنجاح في الانتخابات، كما كان يعلم ان تونس لا تتحمل ذلك، فأختار «التوافق» لإدارة المرحلة الجديدة التي بدأت مع وصوله لقصر قرطاج، حتى ولو ضحى بالعديد من «الأنصار والمهاجرين». فالسلطة لها أحكامها…
من جهة أخرى، استدعى الشيخ راشد الغنوشي ،بحنكة، التاريخ وتجربة التنظيم في مختلف مراحله،وتقييم مرحلة «الترويكا» في الحكم والواقع الموضوعي والذاتي للمجتمع والعوامل الإقليمية والدولية، بعيدا عن «الشعارات الثورية»، فكان الالتقاء مع الجناح الآخر، مع «الخصم التاريخي»، هل هي شراكة تكتيكية ـ مرحلية ام هي شراكة إستراتجية،ذلك هو السؤال الجوهري والمتعب …
أعتقد ان الرئيس الباجي قائد السبسي ينتمي إلى جيل ومرحلة تاريخية لا تسجل في دفاترها إلا العناوين الكبرى، كما عبر ذلك الفيلسوف الفرنسي فولتير بقولته الشهيرة :  «الويل للتفاصيل، فالأجيال القادمة تهملها كلها»Malheur aux détails, la postérité les négliges tous
ستسجل الدفاتر دوره في إعادة التوازن السياسي في تونس وخاصة أهمية نجاح المسار الديمقراطي في تونس، البلد العربي الإسلامي، اما تفاصيل الحكم اليومية، على أهميتها، فستوضع في دفاتر مخفية …
مسيرة الرئيس الباجي قائد السبسي، للوصول إلى الحُكْمِ وممارسته لا يمكن ان تعاد، كما انها لا تتحمل الاستنساخ، خاصة وانه يبدو اننا تجاوزنا مرحلة «الزعيم الكاريزماتي» ودخلنا مرحلة «الإدارة السياسية «للشأن العام التي تحددها منظومات وأجهزة وقوى داخلية وخارجية، واعتقد ان الرئيس يفكر مليا في ذلك للمحافظة على تواصل السلطة…
ان التكوين السياسي  للفرد لا يتشكل عادة  بالصدفة بل من خلال محطات مترابطة ومتراكمة ومعقدة، وهو الشيء الذي تغير تقريبا في واقعنا السياسي الحالي، إذ أصبح الفاعل السياسي تصنعه، في اغلب الأحيان، الأحداث ومصالح وآليات جديدة سياسية ومجتمعية ومالية وحتى خارجية، انه عصر جديد في العمل السياسي، عصر لا ينتمي له الرئيس الباجي قائد السبسي .
وان إنجاح الانتقال الديمقراطي، يعني وبالخصوص تفعيل مؤسساته الدائمة، وإعلاء شعار العدل وتركيزه، والعدل هنا يجب ان  يفهم بمفهومه الشامل الاجتماعي والاقتصادي والجهوي وخاصة للشباب، وليس فقط بمفهومه القانوني.
وخلاصة القول وجب الآن إعلاء مبادئ الجمهورية  الحديثة… هذا ما ينتظره التاريخ من الرئيس الباجي قائد السبسي، خلال عهدته، بعيدا عن تفاصيل الحكم  المزعجة..
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP