الجديد

خالقة ” بنت اللّه”  نوّال السّعداوي تودّع الحياة

شعبان العبيدي

من غرائب مآسينا نحن الشّعوب العربيّة أنّنا لا نتذّكر كتّابنا ومبدعينا وشعــــــــــــراءنا وقنانينا وهم بين ظهرانيننا، ولا نقضي من الوقت الذي نقضيه على الشّاشات مع كتبهم ودواوينــــــــهم ونجاحاتهم، ونقرأ ونكتب. فقد كبّلت أيدينا عن الكتابة وكبّلت عقولنا عن معاشرة الكتب والفنّ أمام جوع البطون وقلّة ذات اليد وقدرة أنظمتنا على تهميش المعرفة والإبداع، لأنّها أنظمة اختارت منذ عقود أن تعوّل على العسس والبصّاصين والمتسلقين فأبعدت منهم “المواطن الرّقيب” و” الوطنيّ المخبر” وجعلتهم يتتبّعون أصحاب الأقلام والشّعراء ورجال الفكر أعداء سلطة القوّة لأنّهم مجانين العقول.

ويمكننا أن نجري اختبارا بسيطا في مجتمعنا بمختلف فئاته حول ما يعرفونه عن الكتّاب التونسيين منذ الاستعمار إلى اليوم، فلن يذكروا إلاّ بعض الأسماء ممّا سمعوا لا ما قرأوا. ولن يذكروا الكثير عن كتب طريفة وصحافة راقية، كما لو سألتهم عن شعراء تونس فلا يعدو بهم اللّســـــــان ذكر أبي القاسم الشّابي وبعض من مكّنهم الإعلام من الظهور، فلن تسمع عن شعراء جيل الشعر الإصلاحي مثل محمد قابادو ومحمد السنوسي وصالح السنوسي ومحمد النيفر وحسن المزوغي ومحمد النحلي وغيرهم كثير وشعراء الاتّجاه التقليدي والشعر الغنائي.

ولن تسمع عن قيمة الشعراء المحدثين في مجلة المباحث ثم مجلة الفكر إلى يومنا هذا. ولأنّهم فارقوا الحياة ولم نكن هناك لنرثيهم، فقد أصبحنا اليوم متفرّغين نتربص بموكب موت أديب أو أديبة أو فنّان حتّى ننقل انفعالاتنا وعقدنا وأمراضنا إلى أزرار لــــوحة مفاتيح الحواسيب، ونحوّلها إلى وقفة لتصفية حسابات وإنشاء معارك أخرى على جثث الموتى رحمهم اللّه.

هذا ما يجري اليوم، على أثر انتشار خبر الكاتبة المتفرّدة والمرأة المناضلة نوّال السعداوي بعد صراع طويل ليس مع المرض فحسب أو الموت بل بعد صراع طويل مع الكتابة وخرق النّمط وترسيخ الكتابة النسوية الثّائرة الّتي تؤرّقك ولكنها تغريك، تمزّق كلّ قناع تضعه لكنّها تفضـــح حقيقتك الّتي تداريها كلّ مرّة بلحاف.

توفيّت نوّال السّعداوي، ولست أبكيها بل أبكي نفسي لأنّي لم أخض ما خاضته، ولم أملك تلك المــــوهبة والقدرة على التقاط الفكرة الفاجعة والصدمة الروائية كما امتلكتها. ولكنّ موتها أعادني لأتذّكــــــرها من خلال روايات كنت قرأتها منذ سنين الجامعة ولن أنساها لأنّها أخرجتني من عقلي منها روايتها “سقــوط الإمام” وبطلتها “بنت اللّه” … يا له من اسم؟ ويا لها من جرأة؟ والإبحار مع الحدث يدمي القلب ليس لما عانته المرأة فحسب بل لطبيعة هذا المجتمع العربيّ السجين، حقيقة تتـــــردّد على أذني من كتاب نعيمة (الوهم هذا هو أن الرجل حرّ والمرأة مُستعبَدة. وكلاهما في نظري، ما دام مقيداً بالآخر، حرّ بحريّة رفيقه عبد بعبــــوديته)

تعنون نوال السّعداوي روايتها هذه في فصلها الثاني بعنوان (لا يعرفون القراءة) تعرّيكم، وتدعوكم إلى القراءة عـــوضا عن النّحيب وخلق معارك على حساب جسدها وقلمها وحبّها، فقد خاضتها قبل أن تولدوا في أزمنة الاستبداد المضاعف، وتغلّبت عليها، خاضتها ضدّ العمائم الأزهرية الصدئة وضدّ سجون السّلطة وضدّ عقلية الحريم. وهي حتّى في موتها تستحقّ أن تكرّم أديبة ومناضلة. صاحبة رواية “زينة” التلميذة اليتيمة التي تشببها في الوجه والملامح لا في الطبقة والانتماء. وكتاب “المرأة والجنس” و “الوجه العاري للمرأة العربية” و “مذكرات طبيبة” ورواية “امرأتان في امرأة” وامرأة عند نقطة الصفـــــــر” وغيرها من الكتب والمقالات القيّمة.

نوّال السّعداوي الطبيبة والكاتبة والثائرة تستعيد باسمها في ذاكرتي أقلاما نسائية حادّة وطريفة الاستعارة والرّمز والأسلوب في البلاد العربية، وهي تخمش وجوه القوم وتدميها وتعرّيها لتكشف أنّ وراء المناديل الورقية للحداثة المــــــزعومة يضرب التخلّف والأميّة والتّمييز بشتّى أنواعه في مجتمعاتنا، لتقول إنّ طريق حريّة المرأة الكاملة هو تحرير للمجتمع، وتحرّر المرأة هو تحرّر الرّجل.

رحم اللّه نوّال السّعداوي الّتي أسكنت في ذاكرتي وقلبي بطلتها “بنت اللّه” وجعلتني أبحث عنها لعلّي ألتقيها لتحدّثني عن اللّه في الحبّ والتمرّد والفرح، وتريني طريق اللّه فيها وفي معاناتها وصراعها بعد أن جفّف الفقهاء وبقايا تجّار قريش وجه اللّه في عينيّ، وقدّموه لي دوما ظالما ساديا أو مغريا. فإنّ وفاتها بعد هذه المسيرة وفاة بطولية جعلتها تبقى وشمــــــــا في ذاكرة القرّاء حيّة على الدّوام. تدعوك إلى القراءة واستعادتها في الحياة ماد مت حيّا.

فهي ليست في حاجة لأن يترحّم عيها هؤلاء أو يشمت هؤلاء، فقد علمت وهي تصارع فيالق الجهلة والمتعصّبين الّذين لا يفقهون معنى الخيال الأدبيّ ولا معنى الحريّة أنّها جاءت قدرا وعاشت قدرا صنعته بإرادتها وماتت قدرا، لكنّها أثارتك وأقلقتك وشحنتك.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP