الجديد

حديث أخير حول "الجبهة الشعبية"

كتب أيمن علوي*
يعتقد الكثيرون،  ان الجبهة الشعبية،  كانت ضحية صراع افراد و نرجسيات و تمترسات “سكتارية”،  ادت الى العصف بها ، وانه لو قاد المسيرة طائفة مؤمنة ” بالتجميع” ، و مختصة في ازالة العقبات و تذليل الفوارق، لبقيت الجبهة “صرحا شامخا” و” خيمة جامعة” ، و لذلك تسمع اليوم بكاءا و نحيبا عليها ، يشبه النحيب و العويل على الشهيد شكري بلعيد .
و دعني ابدأ من هنا ، من شكري بلعيد حيث يعكس الخلاف في شأنه عينة مهمة لفهم سياقات لاحقة لاستشهاده .
شكري بلعيد ليس زائرا عابرا لهذه الدنيا ، جاء ليطل على تونس و شعبها ، ثم يرفرف راحلا ليترك الثكالى و الايتام وراءه يندبون غيابه ، شكري رجل معلوم في الامكنة و الازمنة ، انضم منذ صغره الى “الوطد” (فصيل يساري مهم)  ، ليس بوحي انزل عليه وانما مع رفاق له من اترابه و من معلميه ، كان عنيدا معهم ؛ نعم كان مثيرا للجدل ؛ نعم ؛ كان متقد الذهن ؛ نعم؛ كان بالغ الطموح ، نعم  كان سريع المبادرة نعم ؛
لكنه كان مع رفاقه ، في فضائهم صارعوه ، اختلفو معه ؛ عاقبوه و حتى قاطعوه ، وهكذا نًحت شكري بين ذكائه و شخصيته القيادية، وبين التزامه بمشروع يعرف انه ليس حارسه و لانبيه المرسل ،
لم يكن شكري كالبعض يعتقد ان القيادة اصطفاء، و حتى ان وسوست له نفسه ذلك كان محاطا برفاق يردعونه و يلجمونه، و يذكرونه بجملته الشهيرة ان ” لامصالح لنا خارج مصالح شعبنا” ، و عندما انطلق التحريض عليه و تحسسنا الخطر على حياته، كنا متفقين ان الاستهداف ليس لشخصه بل لصفته، التي تحمل في ثناياها الموقف السياسي للوطد الذي صغناه معا ،
فاغتيل شكري بلعيد الامين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (الوطد)، و احد ابرز قادة الجبهة الشعبية فاصبح بقدرة قادر شهيد الجميع، بما فيهم من كان لا يطيق رؤيته، و اصبحت له مكرمات و روايات و احاديث مأثورة، لا يعرفها اقرب اقربائه من رفاق دربه ، و كثر مفسروه و مؤولوه و شارحوه، حتى خلنا انهم يتحدثون على شكري آخر غير الذي نعرفه ،
على كل حال،  انا اعلم علم اليقين ان شكري نال النهاية التي تمناها ، و عبر عنها في حياته ان يموت في المعركة و مكانه الى جانب المظلومين، و مادام كذلك فرفاق المعركة لن يتركوها ليندبو موت شيخ القبيلة، بل لتنتصر القضية التي استشهد فيها القائد .
ان الخلاف حول التعاطي مع استشهاد شكري بين السياسة و العاطفة ليس ادانة للعاطفة ، اعلم ان لشكري احبة قسم غيابه ظهرهم و ادمى قلوبهم، لكن تحويل العاطفة الى ايديولوجيا يميع قضية الرجل و يطمس بوصلته و يجعله مجرد ذريعة للشعوذة الفكرية و السياسية تسيئ لذكراه و تنال من شرف دمه ، كذلك التعاطي مع الجبهة الشعبية .
من المؤكد ان ” جمهور” الجبهة اليوم يحس بضياع سياسي و تنظيمي مفزع وينتابه حنين مؤلم “لصولاتها و جولاتها” و يشعر بنقمة على كل المتسببين فيما آل اليه الوضع (كل حسب موقعه ووجهة نظره من الخلاف طبعا ) .
كل ذلك مفهوم ،و لكن خطورته تكمن في ان يتحول الشعور الى وجهة نظر سياسية ، في حين ان الامر ايها الاحبة ليس كما يتصور الكثيرون، حيث لايمكن لخلاف بين افراد او نزعات ان ينهي تحالفا سياسيا بذلك الشكل ،
الصراع الاخير لم يكن الا تمظهرا لتصفية الشراكة لان الجبهة كان جسما يعاني من عسر الهضم لانه لا يتناول افكارا جديدة تنعشه، ولا بشرا جددا يقوون عظمه ولا يقتحم مجالات و قطاعات متنوعة تحرق شحومه و تعدد زوايا نظره و تعوده على اختلاف الاراء والاصوات .
الجبهة فشلت في ضبط ايقاع خطها السياسي، و تحديد برنامج جذاب و مغري لان مكوناتها نفسها عاجزة عن ذلك في داخلها ( بعيدا عن المقاربة البلهاء و الساذجة في وجود خط يميني و خط ثوري وان هناك حزبا ذنبه الوحيد انه لم يطرد اليمينيين مبكرا ) ، الجبهة عجزت عن بناء حلف وطني شعبي على الارض.
حلف تعبر عن مصالحه بشكل واضح و ذلك اساسا لان فيها من يعتقد ان حلفه الطبقي متشكل deja و هو يقوده و لا حاجة له بحلفاء بل بمبايعات ، الجبهة فشلت لان فيها مكونات او ربما اشخاصا يعتقدون ان وجودهم فيها من سخرية الاقدار و انها ليست مكانهم و متنفسهم ولا بيتهم الاصلي ؛ الجبهة انهزمت لان احزابها تستسهل الهزيمة و تخشى الانتصار و عواقبه ، الجبهة ماتت لانها احتوت كل اسباب الفناء السريع .
نحن في “الوطد” معترفون بكل هذا و مستعدون لتعلم الدرس و كل الدروس ، و مصممون على ان ينتصر كل من هزمناهم و يبتسم كل من ابكيناهم، لاننا ببساطة فينا كل عيوب الدنيا فقط نحن غير مستعدين ان نكون مجددا في مشاريع همها الوحيد عدم تعكير مزاج الزعيم.
*قيادي في الجبهة الشعبية

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP