صفقة القرن.. تصفية الهوية الفلسطينية بأدوات القرن الــــ21
بقلم محمد بشير ساسي
قبل أشهر وتحديدا أواخر يونيو/حزيران من العام الماضي جسّ غاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره البارز نبض ضيوف مؤتمر البحرين من خلال مناقشة الشق الاقتصادي بما بات يعرف إعلاميّا بـصفقة القرن..
حينها قال كوشنر وهو من وُصِفَ بـــــ « عرّاب الخراب » أنّ المقترح يقدّم للفلسطينيين « مستقبلا أكثر إزدهارا » إذا وافقوا على اتفاق سلام مع إسرائيل.. في ذلك المؤتمر قيل أنّ الرسالة وصلت واضحة للعرب والعالم بلغة السمسرة والبورصات حيث أُعلن عن خطة السلام في الشرق الأوسط، تهدف إلى جمع استثمارات تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار لصالح الفلسطينيين، وإلى خلق مليون فرصة عمل لهم ومضاعفة إجمالي ناتجهم المحلي خلال عشرة أعوام..
قيل أنذاك أنّ رائحة المساومة على الحقوق الفلسطينية تفوح من البضاعة قبل الإتفاق على المحتوى السياسي وتفاصيل التنازلات عن الأرض، وشكل الدولة وحدودها، لتتحوّل قضية عادلة يجتمع من أجلها بعض المحسنين بعد تسعير كل المعاني والقيم الإنسانية.
ويرى مراقبون أنه وُضعت في العاصمة المنامة لبنات المشروع رغم حساسيته وأُختير طرحه الملغوم في توقيت مقصود تحترق فيه المنطقة العربية بنيران الفوضى والهوان،، بالإضافة إلى بحث الرئيس ترامب عن ورقة « جوكر » للعبها في الانتخابات الرئاسية القادمة وفي اللحظة ذاتها تمنحه فرصة التشويش على محاكمته بمجلس الشيوخ في قضية « أوكرانيا »، إلى جانب محاولة دعم حليفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يواجه تهما جنائية، في الانتخابات القادمة.
توقيت عرف من خلاله سيد « البيت الأبيض » كيف يمسك الأيادي الفلسطينية المكبلة بالانقسام ليعلن بكل تبجّح واستفزاز بأن الخطة « العظيمة » هي فرصة تاريخية » للفلسطينيين لكي يحصلوا على دولة مستقلة، وقد تكون « آخر فرصة » لهم، مضيفا أنّ « الفلسطينيين يعيشون في الفقر والعنف، ويتم استغلالهم من قبل من يسعون لاستخدامهم كبيادق لنشر الإرهاب والتطرف على حد تعبيره.
جاء التنديد من الداخل الأمريكي قبل الخارج حيث أعتبرت الخطة « كارثة القرن وضد السلام » على حد تعبير السيناتور الديمقراطي في مجلس الشيوخ كريس فان هولن، بينما أكد سيناتور آخر وهو بيرني ساندرز أنّ أي صفقة سلام يمكن قبولها لا بد أن تتسق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، أما النائبة الديمقراطية بمجلس النواب إلهان عمر فقد وصفت خطة تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالمخزية والماكرة والمناهضة للسلام. الصوت الفلسطيني المختنق بفعل المؤامرات فقد كان لسان حاله يقول: »رضينا بالبين والبين ما رضي فينا،، هذا الشعب يستحق الحياة »..
رددها الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن في كلمة أذاعها التلفزيون في رام الله معلنا خلالها أن القدس ليست للبيع وحقوق الشعب ليست للمساومة وصفقة المؤامرة لن تمر، وستذهب إلى مزابل التاريخ كما ذهبت كل مشاريع التصفية والتآمر على القضية العادلة. حديث أبو مازن أعطى إنطباعا وفق محللين عن استبعاد إمكانية نجاح تطبيق الخطة على أرض الواقع بالدعم الأميركي لوحده، بل ويعتقدون أن الخطة الخطة الأميركية لم تكتب من أجل أن تقبلها السلطة الفلسطينية، بل لترفضها ويظهر للعالم أن الجانب الفلسطيني وجهته ليست السلام وهي مصلحة مشتركة لنتنياهو وترامب.
لكن ثمة داخل إسرائيل وخلافا للطرح الذي يقلل من قيمة « صفقة القرن » بسبب عدم قبولها فلسطينيا، من يؤكد – على غرار المستشرق إيال زيسير- أن خطة السلام الأميركية لترامب بمثابة حدث تاريخي في التكوين المستقبلي لدولة إسرائيل وسيمكنها لأول مرة من تحديد ورسم حدودها من خلال فرض أمر واقع بمعزل عن الرفض الفلسطيني.
ويرى مؤرخون أن أسس السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي تغيرت بصورة دراماتيكية منذ وصول الرئيس دونالد ترامب لسدة الحكم حيث لم تعد واشنطن تصف النشاط الاستيطاني بأنه عمل غير شرعي، ولم تعد ترفض ضم أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، ولا يرجع ذلك لتغير في الموقف السياسي، بل لاعتبارات دينية توراتية وإنجيلية وتعتقد ماريف زونزين خبيرة الشؤون الدينية أن « الكثير من الأيفانجاليكان المسيحيين ممن صوتوا لترامب يعتقدون أن وعد الرب لليهود بالعودة للأراضي المقدسة سيمهد للعودة الثانية للمسيح » أما المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي إيلان بابيه فقد اعتبر أن مبادرة ترامب تستند إلى الأساطير الصهيونية التي تنكر وجود الفلسطينيين كشعب أصلي.
وحقيقة أن الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية استيطانية، وفي عام 1948 كانت طريقة تحويل هذه الخرافات إلى حقيقة هي عن طريق التطهير العرقي وتشويه الجغرافيا الفلسطينية وتقطيع أوصالها. ويرى البعض أن ترامب اختار نائبه مايك بنس ليفتح الباب واسعا أمام إقبال شديد من الطائفة الإنجيلية للتصويت له، ويتبنى بنس خطابا إنجيليا متشددا، فهو من أقصى اليمين المسيحي المؤيد لإسرائيل.
كما أن فريق ترامب لسلام الشرق الأوسط يضم يهودا متشددين دينيا، مثل غاريد كوشنر، وديفيد فريمان السفير بإسرائيل، وجيسون غرينبلات مبعوث عملية السلام، وإضافة إلى بنس، يعد وزير الخارجية مايك بومبيو من الإنجيليين المتشددين داخل إدارة ترامب.
وخلال مؤتمر عقد مؤخرا قال نائب الرئيس الأميركي « نحن ندعم إسرائيل بسبب الوعد التاريخي المقدس أن من يدعمهم الآن سينال بركة الرب ». كما تشير تقارير إعلامية إلى أنّ التيارات المسيحية المحافظة الإنجيلية اكتسبت نفوذا كبيرا في البيت الأبيض عقب وصول ترامب للسلطة، إذ إن بعض هذه التيارات يعقد جلسة أسبوعية لأداء الصلاة المسيحية مع الرئيس ترامب داخل البيت الأبيض
أما الكاتبة ميشيل جولدبرغ من صحيفة « نيويورك تايمز » فترى أن ترامب غير المتدين هو حصان طروادة لليمين المسيحي الإنجيلي الذي يريد السيطرة على السياسة الأميركية.. ويجعل من الرئيس الأمريكي المحرك القوي لخطة إزالة فلسطين كمشكلة سياسية، أي باختصار، إن ما يجري هو استمرار لنكبة عام 1948 – الصراع من أجل تصفية الهوية الفلسطينية – لكن هذه المرة بأدوات القرن الـ21
Comments