تونس: الباجي قائد السبسي وإعادة كتابة التاريخ
نشر الموقع الفرنسي « شرق 21 » مقالا للصحفي « تيري بريزيون »، تحت عنوان: « تونس: الباجي قائد السبسي واعادة كتابة التاريخ »، استهله بما يلي: « ارتقى الباجي قائد السبسي بعد وفاته بأيام الى مصاف الأسطورة، المنبثقة مباشرة من السردية الوطنية البورقيبية. ذلك مع أن سيرته السياسية خير دليل على تشعبات القدر والتاريخ وازدواجية السلطة. مسيرة كان لها أكثر من وجه، الوجه الذي ظهر به بعد وفاته، كبَنّاءٍ للديمقراطية ».
نص المقال:
كان الباجي قد تعرض حتى آخر يوم من حياته للانتقاد اللاذع من كافة الأطراف في الساحة الوطنية، وتحول منذ وفاته في 25 جويلية/ يوليو إلى مُشَيّدٍ للديمقراطية ووريثٍ للثورة. كان انفعال الجماهير خلال جنازته يوم السبت ينم عن الحاجة للتجمع والتوحد حول رمز وطني يعلو فوق الجميع، والتماهي مع زعيم وطني يترفع عن مناكفات السياسيين المحترفين، وكأنه الزعيم المنتظر .. بعد وفاته. أما رثاؤه على الصعيد الدولي (كإشادة الرئيس ماكرون به) فتعيدنا الى صورة تونس المثالية – المتّسمة بالتسامح، ذات التوجه العصري، المنفتحة، محَرّرة المرأة – والتي تتيح لهذه النخب نفسها الاستئثار بحق تمثيل واقع البلاد، الواقع الشرعي الوحيد المقبول لديها. التحق الباجي قائد السبسي بقامة بورقيبة الى حد التماهي معها، في عملية توليف ما بين تأسيس الدولة المستقلة والثورة، فأسبغ عبر تحوّله الى أسطورة طابعاً مقدساً على النسخة المستحدثة من السردية الوطنية، وطَبَعَ الثورة بِخَتْمِه. إلا أن الأيقونة التي جرى صقلها على وجه السرعة لا يمكن أن تنسينا الظلال في الصورة المُرَكّبة.
حسن الطالع
علامات القدر تصنع الأساطير. وكان القدر قد منح طالعاً حسناً للباجي قائد السبسي، الذي ولد في 29 نوفمبر 1926، في جوار مدفن سيدي الباجي1 الذي سمي باسمه، وتوفي في 25 جويلية/يوليو، وهو تاريخ ذكرى إعلان الجمهورية عام 1957، التي ربط مصيره بها. وكانت له التفاتة زَهْو إضافية، في الخطوة الأخيرة من حياته السياسية والتي تمثّلت بإصداره قانوناً لإنشاء الهيئة “الدستورية للتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة”.
منحته دراسته في المدرسة الصادقية إمكانية الذهاب الى باريس لدراسة الحقوق فيها. أما صداقته مع الحبيب بورقيبة الإبن، نجل المجاهد الوطني، فقد منحته فرصة اللقاء ببورقيبة الأب الذي أصبح فيما بعد زعيم الاستقلال، وذلك في فندق لوتيسيا في باريس. سَحَرته منذ تلك اللحظة بلاغة القائد ورؤيته، و أَسَرَّ لاحقاً في شهادة له2 « لم يغادرني منذ ذلك الحين، ولم أغادره قط ». كانت الصلة التي حبكها اللقاء الباريسي السمة المميزة المستديمة في المسيرة السياسية للباجي قائد السبسي.
الإرث التسلطي
“أنا من أتباع بورقيبة” هذا ما كان يؤكده. وهذا ما يشي بالتناقض الكبير في مسيرته السياسية: فمن ناحية ساهم في عملية تشييد طويلة النفس وشبه صوفيه للدولة القومية، وفي الوقت نفسه خدم حكماً شخصياً في النزاعات على السلطة وعبر البطش الذي اتسم به النظام الدكتاتوري. وابتداءً من نيسان 1956 تبوأ عدة مناصب، ثم عُين مديراً للأمن الوطني بعد كشف محاولة انقلاب أعدها ائتلاف من المعارضين، أدت محاكمتهم الى إعدام اثني عشر شخصاً، في 24 جانفي/يناير 1963. “لقد استَلَمَتْ القضية وزارة الدفاع حتى صدور الحكم”. هذا ما كان يقوله لتبرئة نفسه. أما المحكوم عليهم بسنوات السجن فلقد أمضوا ثماني سنين مقيدين بالأغلال في أقبية معتمة، وهو الأمر الذي لم يكن بإمكانه إغفاله.
ولقد تفاقم بعد هذا الحادث الطابع الاستبدادي والقمعي للنظام وكان الباجي قائد السبسي في قلب الجهاز الأمني. بل وأصبح وزيراً للداخلية في جويلية/ يوليو 1965. كان في منصبه هذا عندما تم اعتقال جماعة “آفاق” من أقصى اليسار، وتعذيبهم، والحكم عليهم في إطار محكمة استثنائية ابتداءً من عام 1968. “كان الطاهر بلخوجة هو من تابع الملف” على حد تعبيره. ثم صرّح بعد ذلك “ولكنني لست أدري مم يشتكون”.
عندما كان يتطرق الى دوره في تلك الفترة، كان يتحدث وكأنه مجرد حلقة وصل بين “تشدد” بورقيبة وشراسة من ينفذ الأوامر، حلقة لا سلطة لها . وفي الحقيقة، كان يخدم سياسةً يجد لها التبريرات، حتى بعد مضي فترة من الزمن فيقول: » كان بورقيبة متسلطاً وكان على حق في ذلك. إذ كنّا نتعامل مع أُمِّيين، ونتصدى لمشاكل لا قِبَلَ لنا بحلها. من حيث الإمكانيات، وكان الناس مُسْتَعجِلين. صحيح أنه كان صارماً، ولكنه كان شريفاً. » هذا ما قاله لنا في نوفمبر 2014.
بين القناعات الديمقراطية والولاء للدولة
كان من الصعب عليه أن يتنكّر لإرث بورقيبة التسلطي. مع ذلك، فإن التناقض كان ماثلاً منذ ذلك الحين: فبعد رفض بورقيبة تطبيق قرارات مؤتمر منستير (1971) الهادفة لإدخال الديمقراطية الى الحزب الأوحد (الحزب الاشتراكي الدستوري) ابتعد الباجي عن الحكم وجعل مسافة بينه وبين بورقيبة. وكتب عن تلك الفترة في افتتاحية نشرت في جانفيي/يناير 1972 : »عساه يغتنم فرصة قريبة في المستقبل ليؤكد أمام التاريخ أنه لا يكتفي بتشييد بلاده بل يُبيّن فوق ذلك إدراكه للتطورات التي لا بد منها، ويبادر لضمان الديمومة لإنجازاته، عبر التقدم والوئام ». ولم يلقَ نداؤه هذا أي صدى وقتها. لكنه كان يرسم، من حيث لا يدري، معالم رسالته الشخصية.
واجتاز بعد ذلك فترة من الفراغ، دون أي نشاط يذكر. خلافاً لليبراليين آخرين، ومنهم أحمد مستيري (الذي أسس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في 1978)، لم يناضل من ناحيته في المعارضة. وتلقى اقتراحاً، في أفريل/نيسان 1980، بالعودة الى الحكومة. ولكنه وضع شرطاً على قبوله: أن يندرج ذلك في خدمة مشروع لصالح الدَمَقْرطة. فأصبح، في أفريل/نيسان 1981، وزيراً للخارجية. واختاره بورقيبة، سعياً منه لربطه بالنظام ارتباطاً لا رجعة فيه، كمرشحٍ ضد أحمد المستيري في الانتخابات التشريعية في نوفمبر 1981.
أما الانتقال الديمقراطي فكان شكلياً لا غير. لا عبادة الشخصية ولا قمع انتفاضة الخبز في 1984 استطاعتا دقّ اسفين بين الباجي قائد السبسي وبورقيبة. بل على العكس، عاد الباجي مجدداً يلعب دور الرجل الأمين لدى بورقيبة. الى درجة إثارة مشاعر الغيرة لدى البعض، وهي غيرة قاتلة في سنوات الصراع على خلافة القائد. وترك الباجي منصبه في سبتمبر 1986.
وبعد وصول زين الدين بن علي الى الحكم في 1987، تبوأ لفترة سنة واحدة، من 1990 الى 1991، منصب رئيس للبرلمان، المُكوّن آنذاك بشكل كامل من التجمع الدستوري الديمقراطي، بعد تزوير الانتخابات. ولم يتردد بالإدلاء بتصريح لصحيفة رياليتي في 27 سبتمبر 1991 يقول فيه“لا أجد غضاضة في ترأس مجلس من لون واحد، طالما أنه إفراز لصناديق الاقتراع”. ومع أنه كان يتحلى بالولاء، إلا أن حنكته السياسية، وإيمانه الشديد بالدولة، وتأثره الى أبعد الحدود ببورقيبة، الذي استُبعد بعد الإطاحة به في 7 نوفمبر، 1987 كل ذلك أبعده عن بطانة بن علي، ونأى بنفسه عن الحكم، في حين راح النظام يغرق في ممارساته المافيوزية.
احتواء الثورة
وببلوغه ال 84 من العمر، كان يمكن اعتبار مسيرته شبه منتهية. إلا أن الأقدار لم تشأ ذلك. ويا للمفاجأة الغريبة أن يتم استدعاء هذا الرجل المعروف بارتباطه الوثيق بالعهد القديم، وضحالة مسيرته الديمقراطية، ليلعب دوراً حاسماً بعد ثورة بدت في عيون المعاصرين ضربة قاضية ل 55 سنة من الدكتاتورية. بما فيها دكتاتورية بورقيبة. ما الذي كان يمثله الباجي قائد السبسي عندما طلب منه مدير الأمن السابق لديه (من 1965 الى 1967) فؤاد المبزع، الرئيس المؤقت بالنيابة، أن يخلف محمد الغنوشي كوزير أول؟ لا شك أنه كان يبدو من رعيل مؤسسي الدولة. إلا أن النوايا التي أتى بها الى الرئاسة لم تظهر بوضوح آنذاك.
ولقد كتبت هالي الباجي عنه، فيما يبدو رؤية مقنعة عن شخصيته3 أنه كان ممن يعتبر “أن الثورة لا تمثل قطيعة مع الدولة الوطنية بحد ذاتها، وأنها ليست ظاهرة خارج الزمن، مختلفة جذرياً عما سبقها من تاريخ.”
أكان استيعاب الثورة داخل السردية الوطنية السابقة هو ما قدمه من مساهمة تاريخية؟ وهل كان هذا الاستيعاب ترسيخاً للثورة أم أنه طمس قدراتها على التغيير الفعلي؟ وفوق ذلك كله، أكان من الممكن أن تجري الأمور بشكل مختلف؟ لن تكون الإجابة على هذه الأسئلة بسيطة، ولا شك أنها ستسفر عن وجهات نظر مختلفة في تقييم الأحداث. ولكن إن تم استدعاء الباجي قائد السبسي وقتها، فهذا معناه أنه لم يكن لدى الانتفاضة ولا لدى المعارضة الديمقراطية التي انضمت إليها لتمنحها التأطير المطلوب وتوجهها باتجاه المطالب الدستورية، ما يكفي من قوة العرض السياسي لفرض شخصياتها ومنهجها. وبالتالي، كان لا بد للعهد القديم أن يطغى على العهد الجديد. في الميزان بين ديناميكية القطيعة والقصور الذاتي المحافظ رجحت الدفة لصالح القصور.
نقطة التوازن
وكان اعتصام القصبة 2، تحت جناح مجلس الثورة المؤلف بشكل أساسي من نقابيين من الاتحاد العام التونسي للشغل ومناضلين من أقصى اليسار، والذي كان السبب في عودة الباجي قائد السبسي، قد تبنى مطلب انتخاب مجلس تأسيسي. أما الباجي فكان يُحبذ إجراء انتخابات رئاسية سريعة. بحيث يكون للأحزاب نفوذ أقل في صياغة الدستور، وتخضع عندها لسيطرة السلطة بشكل أكبر. وتكون النتيجة مختلفة. هذا أمر له أهميته. فالطريق الذي اضطر لسلوكه الباجي قائد السبسي لم يكن في حقيقة الأمر الطريق الذي كان يتمناه.
كانت الفترة الانتقالية قبل انتخابات المجلس التأسيسي غنية بفرص إجراء قطيعة مع الماضي: البدء بتغيير عميق لوزارة الداخلية، وإبعاد القضاة الأكثر تورطاً مع النظام القديم، والمباشرة بإصلاحات هيكلية، وتحطيم الحصون الإعلامية التي شُيّدت في ظل بن علي، وتقييد سلطة المال على الإعلام. لا شك أن إنجازات كهذه هي من أعمال الجبارة، تتطلب إرادة وصلابة سياسيتين لم تكونا لأحد من الموجودين آنذاك. بمن فيهم الباجي قائد السبسي. الاحتفاظ بأركان النظام القديم كان له كبير الأثر على مجريات الأمور فيما بعد. ولكن هل كان الباجي قائد السبسي المسؤول الوحيد عن هذا الوضع؟
كان الخيار بالتعويل على دستورٍ يصوغه مجلس تأسيسي في النهوض بمهمة التحويل السياسي والاجتماعي قد جعل الطاقات السياسية تتجه باتجاه التحضير للانتخابات، وأسفر بالتالي عن تجميد الحراك الثوري. ولم يكن في تونس من “قصر شتاء” ليجري اقتحامه ولا من لينين ليشن الهجوم عليه ويذهب بعيداً في القطيعة مع النظام القديم. وحتى لو لم يكن هو الخيار الوحيد الممكن، إلا أن الباجي قائد السبسي بدا آنذاك تجسيداً لما يمكن اعتباره نقطة توازن، لولاها لكانت قوى النظام القديم، التي احتفظت بهياكلها، ستقوم برد فعل. أو لربما كانت سترضخ. ولكن بأي ثمن.
مع النهضة، مهادنة محفوفة بالالتباسات
كان يمكن لمسيرته أن تتوقف عند هذا الحد، عند انتخابات ال23 أكتوبر 2011. فلقد كانت المهمة التي استدعي مجدداً من أجلها قد تمت بالفعل. لكن مذاق السلطة الذي استساغها أو ربما حاجته لانتزاع انتصار من التاريخ، يفوق به معلمه، بتمديد إنجازاته بالدَمَقْرَطة، ربما هذا هو الأمر الذي دفعه الى المضي قدماً؟ أم أوكلت إليه مهمة الدفاع عن مصالح سياسية ومالية كان يهددها التطور السياسي؟ أكان يسمع نداءً تاريخياً بوجوب تشييد قوة سياسية في وجه النهضة؟ ربما كان الأمر خليطاً من كل ذلك. على أية حال، ومنذ ال28 من أكتوبر، بات يطرح فكرة حزب جديد، وهو الحزب الذي سيصبح فيما بعد نداء تونس. ولم يكن هناك أي ضمانة، حتى بالنسبة لمن يشيّد قوةً سياسية، أن يصبح هو مرشحها، وقد شارف على التسعين. إلا أن كل المؤشرات كانت تدل على أن طموح الرئاسة يراوده. ولقد توفرت له السبل: القيادة، التمويل، التأييد الإعلامي، جهات الدعم الخارجي، وشبكة المحسوبيات، لتجميع كل تيارات المعارضة للنهضة في كتلة حزب واحد.
كان التوتر السائد عام 2013 قد وضعه في دور المفاوض. ولا شك أن التقارب الذي باشر به في باريس في شهر أوت/ أغسطس 2013 خلال مقابلته راشد الغنوشي شكّل منعطفاً حاسماً في عملية الانتقال التونسية. ولقد كان لهذه التهدئة كبير الأثر على المدى البعيد في تحويل مجرى الأمور ولا شك أن اختيار الباجي قائد السبسي كان أساسياً بهذا المعنى.
ولكن نتيجة المهادنة لم تكن مطابقة تماماً للهدف المرسوم لها في البداية. فخلال المفاوضات اقترح الباجي على النهضة أن يتم الإبقاء على رئيس الوزراء التابع لها، علي العريّض، مقابل إزاحة منصف المرزوقي من رئاسة الجمهورية بحيث يُنتخب هو مكانه من قِبل المجلس التأسيسي. وهو العرض الذي لم يُقبل في نهاية المطاف. ومع اقتراب موعد الحوار الوطني، في ديسمبر 2013، اقترح أن يوضع الحكم بين أيدي مجلس أعلى للدولة، يكون فوق الحكومة وله السيادة في ممارسة السلطة. أما المجلس التأسيسي ورئيس الجمهورية فيكون لهما دور ثانوي. وفي الوقت الذي كان يخيم فيه على تونس شبح الانقلاب المصري الذي حصل في 3 جويلية/يوليو 2013، فإن هذه المقترحات كانت عبارة عن نسخة ملطّفة من السيناريو نفسه. وسواءً أكانت هذه مجرد مواقف تفاوضية أم نوايا فعلية، فالذكرى الأساسية التي احتفظ بها التاريخ هي أن الحل التوفيقي الذي تم التوصل إليه مع راشد الغنوشي قد صان المؤسسات، وسمح بالتوصل الى دستور ديمقراطي، كما أتاح للباجي قائد السبسي أن يدخل معترك الانتخابات الرئاسية وللنهضة أن تترك الحكومة مرفوعة الرأس وتنضم عام 2015 الى ائتلاف حكومي.
ويعود له الفضل، بالاشتراك مع الغنوشي، في التنبّه لعدم الوقوع في “فخ توسيديد” حسب عبارة غراهام أليسون4 . أي آلية المصلحة والخوف والشعور بالقوة الذاتية، والتي يمكن أن تؤدي، إن لم يَجرِ التحكم بها، الى صدام محتوم. كان من شأن الإفراط في التخوف، أو التطلب الزائد عن اللزوم، أو رفض التنازل عن المصالح الآنية، من هذا الطرف أو ذاك، أن يجعل المجابهة قدر اً محتوماً لا رد له. وفي خضم التقلبات الإقليمية التي شهدتها السنوات التالية، كان لهذا التحالف دور لا نقاش فيه في امتصاص الصدمات حين كانت اعتداءات عام 2015 تهدف على الأرجح الى وضع حد للعملية الديمقراطية.
إن دعوة الباجي قائد السبسي لحضور افتتاح المؤتمر العاشر للنهضة في ماي/ مايو 2016 يعتبر ذروة هذا التفاهم. وكردٍّ على تصريح الغنوشي بالمصالحة الشاملة بين الحركة التابعة له والدولة، أشاد الباجي بدور النهضة في المساهمة باستقرار الدولة. وظل هذا الاستقرار مستمراً بالرغم من فك عرى الائتلاف في خريف 2020، مما يدل على تأثير الائتلاف العميق على تشكيل الدولة.
إلا أن مغزى هذه “الوحدة” المكرسة كميراث الباجي قائد السبسي يبقى مع ذلك ملتبساً. فالنهضة تعتبره اعترافاً بها والنخب من ناحيتها تعتبر أنها قبلت بها فقط كسبيل لوضع الإسلاميين تحت السيطرة. كان الباجي في خطاباته يوحي بأنه يعتبر النهضة على هامش التجمع الوطني، لا يمكن أن تكون جزءاً منه إلا بإثباتها حسن نواياها باستمرار. وبمعنى آخر فإن فخ توسيد يد ظلّ منصوباً.
مفهوم عامودي للسلطة
وهكذا، في ديسمبر 2014، فاز الباجي بالانتخابات في إطار نظام برلماني لم يكن قد تمناه، حدده دستور لم يكن للكوادر من الدستوريين التقليديين ولا من فقهاء القانون من المدرسة القديمة أي كلمة فيه. ومنذ الأشهر الأولى من عام 2015، بدأت الأصوات تتعالى للمطالبة بإحياء الطابع الرئاسي للنظام. وكان الباجي قائد السبسي هو الناطق بلسانهم. لم تكن الثقافة التقليدية لهذه الأسرة الطامعة بالعودة الى الحكم تتضمن أي دور لرئيس وزراء يستند الى الأغلبية ولا أي ضوابط للسلطة ولا أي تحقيق للامركزية ولا أي هيئات مستقلة. وإن كانت المحكمة الدستورية لم ترَ النور حتى الآن، فلأن ممثلي هذه العائلة السياسية في المجلس النيابي لم يوافقوا على تكبيل أيديهم بهيئات لا تخضع لسيطرتهم.
لم يكن بمقدور الباجي قائد السبسي تعديل الدستور، إلا أنه لم يكف عن الإعراب عن تمنياته بذلك. صحيح أنه تبنى دون أي تحفظ مبدأ دولة القانون وفكرة أن يُترك للشعب حرية اختيار حكّامه، ولكن على أن يتم ذلك في إطار ممارسة عامودية وشخصية للحكم، يمكن أن تذهب الى حد مفهوم استفتائي للانتخابات. إلا أن الديمقراطية اكتسبت في العصر الحديث مفاهيم جديدة وفتحت آفاق جديدة كالمداولات واللامركزية والأفقية… كلها وسائل ترمي الى الحد من الهوة الفاصلة بين الحكام والمحكومين. لا يمكن القول إن الباجي قد فتح الطريق لهذه الممارسات الجديدة.
حتى لو لم يكن الباجي قائد السبسي قد اختار نظام الحكم إلا أنه قد طبعه بنظرته في ممارسة السلطة. بِمَ سيذكره التاريخ؟ بدور الحلف الذي أبرمه مع النهضة والذي ساهم في إحلال الاستقرار عندما كانت البلاد تشهد تقلبات جيوسياسية ولا سيما بعد اعتداءات 2015. وكذلك بإصراره، حال انتخابه، على استصدار قانون يُبيّض صفحة رجال الأعمال وكبار الموظفين الضالعين في الجرائم الاقتصادية في عهد النظام القديم، والذي أدى في نهاية المطاف الى تبني قانون المصالحة في المجال الإداري. وبإعادة توظيف العديد من كوادر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، بما في ذلك داخل الحكومة، وذلك بحجة الكفاءة، وكأن الكفاءة لا تمت بصلة الى القضايا السياسية. كما سيذكر التاريخ أيضاً أنه كرس جزءاً هاماً من طاقته السياسية لمدارة الآثار السياسية المترتبة على تفكك حزب نداء تونس، الناتج أساساً عن وضع ابنه اليد على الحزب. وسيذكر التاريخ كذلك أنه لم يوافق يوماً على مبدأ العدالة الانتقالية، كوسيلة للتعامل مع الماضي بهدف فصله عن الحاضر والمستقبل. وهو الشيء الذي طالما رفضه. بل أنه لم يأت لحضور الجلسات العلنية التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة ابتداءً من نوفمبر 2016، في حين كان بالإمكان الاستفادة من الانفعال الكبير الذي أثارته الشهادات حول عنف الدولة لانتهاج سياسة طموحة من الإصلاحات.
وسعياً منه لدخول التاريخ، خرج بفكرة إصلاح يتبنى مبدأ مساواة المرأة بالرجل في الميراث، وذلك في الحالات الأكثر شيوعاً، وبشروط تجعل المرء يعتقد أنه كان يحاول استغلال قضية ذات مغزى لصالحه، أكثر مما يحاول تنفيذ إصلاح بالغ التعقيد.
الرواية الوطنية
منذ الاستقلال، أُدرجت كل حلقات مسلسل التاريخ في سياق السردية عينها، دون انقطاع. أما عملية إدراج الثورة نفسها والديمقراطية في سياق هذه الاستمرارية، بواسطة الباجي قائد السبسي، الذي تم تحويله الى قديس في غضون أيام، فهي عملية اختطاف تاريخي. وأولئك الذين ظلوا خارج السردية تم تصنيفهم الى الأبد في أسفه الأدوار باعتبارهم من المنشقين، غير الناضجين، الغارقين في الفكر القديم، المتخلفين عن رَكْب المشروع الوطني، أولئك سيظلون محرومين من الحق بكتابة التاريخ من وجهة نظرهم.
ما هي العواقب والممارسات السياسية المترتبة على إعادة كتابة التاريخ بهذا الشكل؟ إن الفراغ الذي تركه موت الرئيس يفتح مجالاً سياسياً جديداً هو مجال “أب الأمة” و“الرجل القوي”. ومع فتح باب الترشيحات للانتخابات الرئاسية المبكرة المزمع عقدها في الخامس عشر من سبتمبر، سنرى كيف يتم ولوج هذا المجال.
هل الشعوب فعلاً بحاجة لرواية وطنية؟ موضوع خاضع للنقاش، ولكن علينا ألا نخطئ التقدير، فالرواية دائماً لصالح الأقوياء. ولكن خلافاً لما كان سائداً في زمن الديكتاتورية، أصبح من الممكن اليوم إعادة النظر بالأساطير. وبعد هدوء الانفعال العاطفي، ستتصاعد أصوات أخرى لتروي تاريخاً آخر، يكون فيه للتونسيين مستقبل مغاير لما يرسمه لهم » أب الأمة” القادم.
تيري بريزيون
صحفي مراسل في تونس
الرابط الأصلي للمقال:
https://orientxxi.info/magazine/article3242?var_mode=calcul&fbclid=IwAR2eNb-yQCMS1WlTIfo-wH8Pd3Wc_6nGbBCJYV6sEiwKEUMV_ugkud9AxDM
Comments