الجديد

لن يستقر البلد إلا بجبهة محافظة ديمقراطية؟

 خالد شوكات
المحافظون الديمقراطيون هم الذين صنعوا “الدول الوطنية/القومية الديمقراطية المتقدمة” الحديثة والمعاصرة. فعلوا ذلك في الغرب واليابان وكوريا الجنوبية، وحتى في العالم الاسلامي، فماليزيا وتركيا كانت النهضة فيهما نتاجا لذلك التحالف السياسي القوي المحافظ والديمقراطي، وليس ثمّةَ من سبيل الى النهوض الحضاري غير هذا السبيل، فالتنمية تحتاج الى قوة سياسية قادرة على خلق الاستقرار السياسي وتمثيل اكبر شريحة شعبية من خلال الالية الديمقراطية، وما من قوة اقرب الى رعاية هذه المعادلة الا قوة المحافظين الديمقراطيين المتحدة المعبّأة للمعارك الصحيحة، وفيّ مقدمتها معركة النهوض الحضاري.
من هذا المنطلق كنت الى جانب الزعيم الباجي قائد السبسي في بناء حركة نداء تونس كمشروع سياسي بهذا المعنى المحافظ والديمقراطي، المحافظ من منظور الايمان بالمقاربة الوطنية المؤمنة بهوية بلادنا العربية الاسلامية، والديمقراطي من منظور الانخراط في المشروع السياسي التعددي ما بعد الثورة، ودعم المسار الثوري الذي تحول عمليا الى مسار للانتقال الديمقراطي بفضل ذلك الزعيم الاستثنائي، وحتى نقطع الطريق على اي نسخة نكوصية للحركة الوطنية الاصلاحية قد تقلب المشروع كما يفعل بعضهم اليوم الى تيار فاشي إقصائي.
كما دعّمتُ بكل فخر واعتزاز حركة التوافق بين نداء تونس وحركة النهضة التي قادها الشيخان خلال الفترة السابقة على 2019، من هذا المنظور ايضا، فضلا عن مساندتي كل مشروع يعزز تقارب القوى المحافظة الديمقراطية، لإيماني تاريخيا وفكريا وسياسيا بان الحركة الوطنية الاصلاحية التي اسس الشيخ عبد العزيز الثعالبي (الجد المشترك) اول أحزابها سنة 1920، كانت حركة محافظة ديمقراطية، محافظة لانها قامت في ايديولوجيتها على الجمع بين عنصري الوطن والدين، وديمقراطية من خلال تبنيها الطرح البرلماني الدستوري التعددي.
وكان الشيخ المؤسس نموذجا في شخصيته وتجسيدا حيّاً في سيرته النضالية الطويلة للجمع قولا وفعلا، وخطابا وممارسة لهذا التوجه المحافظ والديمقراطي والاصلاحي الديني في آن. هذا قبل ان تنقسم هذه الحركة العظيمة تدريجيا، ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، ثم على مشارف الاستقلال وبعده بسنوات قليلة خاصّةً، الى تيار يركز على المقاربة الوطنية وتيار اخر مشدود للهوية العربية الاسلامية، وقد زاد الصراع على السلطة بين هذين التيارين في سياق النظام التسلطي الفردي من تجذير الانقسام والتباعد غير المنطقي بينهما.
لقد شكلت ثورة الحرية والكرامة، ومسار الانتقال الديمقراطي المنبثق عنها، فرصة لما أسميته في نصوص سابقة منشورة بعملية “إغلاق الدائرة”، سواء من خلال إصراري منذ اليوم الاول لنجاح الثورة على تحقيق المصالحة الوطنية او لاحقا من خلال دعم اي جهود للتقارب بين التيارين الدستوري والإسلامي، ومن بينها مساندة تجربة التوافق فكريا وسياسيا عبر المساهمة في تأسيس منتدى العائلة الدستورية كآلية للتاصيل الفكري للتجربة، او عضوية اول حكومة في الجمهورية الثانية بقيادة السيد الحبيب الصيد والنطق باسمها،
كتجسيد حيّ للتوافق السياسي والعمل المشترك بين أبناء التيارين وتمهيدا لقيام هذه جبهة محافظة ديمقراطية اكثر صلابة وتأهيلا لإنتاج التنمية والتقدم، جبهة منشودة نراها حلّا لازمات الوطن والديمقراطية معاً. وتبقى الوجهة عندنا واضحة، رغم الانتكاسات التي مردّها سوء اختيار الأشخاص احيانا، ومكر التاريخ احيانا اخرى،
فبلادنا الديمقراطية الناشئة والرائدة التي أهّلها القدر لقيادة المجال العربي الاسلامي في واحد من اهم التحولات العميقة الرامية لأحداث القطيعة مع التراث الاستبدادي ومحددات العقل السياسي العربي الفاسدة، هي في أمس الحاجة الى الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، ومن هنا حاجتها لقيام هذه “الكتلة التاريخية” المحافظة والديمقراطية.
أودّ ان اختم بالاشارة الى وجود ارهاصات سابقة ولاحقة على الثورة لامكانية قيام وتطور مثل هذه الجبهة الفكرية والسياسية المحافظة والديمقراطية، نتبناها ونستفيد من دروس تعثّرها، فقد كانت تجربة الراحل سي محمد مزالي اهم هذه الإرهاصات، أما ثانيها فقد جسدها بعد الثورة توجه الزعيم الباجي قائد السبسي منذ لقائه في باريس منتصف 2013 الشيخ راشد الغنوشي، ونحن اليوم بحاجة الى تجربة ثالثة اكثر قوة وتماسكا واندماجا.
وخلاصة القول أن جبهة وطنية (محافظة) من اجل الديمقراطية والتنمية تبدو اليوم أكثر من ضرورة لخلق “جودة” الحياة المطلوبة، فالتونسي يحتاج لكي يتقدم في اتجاه الديمقراطية والتنمية ضمن أفق انساني ان يكون مطمئناً لمسار يحفظ هويته الوطنية بأبعادها المغاربية والعربية الاسلامية.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP