الجديد

"الباجي قائد السبسي  :قاهر الزمن"، شهادة المحلل السياسي والكاتب، منذر ثابت

كتب: منذر ثابت
 بمناسبة أربعينية الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، أنشر سلسلة من الشهادات حول الرجل، سبق وأن نشرتها في كتابي: “الباجي قايد السبسي .. المشي بين الألغام”، الصادر في مارس 2017، عن دار “ورقة للنشر”، شهادة اليوم للصحفي والكاتب، محمد معالي، والتي أختار لها العنوان التالي:” بورقيبة في عين السبسي
 ملامح الرجل، تجمع بين القوة والليونة، لم يكن وصوله الي قصر قرطاج ذات 2014 بالمفاجأة الحقيقية، فكل التوقعات كانت ترجح كفته بعد رحيل أهم رموز النظام السابق، و استفاقة النخب السياسية العلمانية من غفوة الحالة الثورية، التي تجاوزت بمفاعيلها كل التوقعات.
الباجي قايد السبسي، العائد من ضباب سنوات النسيان، بعد قطيعة صامتة مع نظام بن علي، لم يكن يجهل العمق السوسيولوجي والثقافي للشعب التونسي، لم يكن بعيدا في جاهزية ذهنه عن فن إدارة الأزمات، ولم يكن فاقدا لمكر السياسي المناور.
كان يعلم أن الحركة الإسلامية، تحضي بدعم العواصم الأوروبية، وانها موضوع رهان ،”الربيع العربي، كان يدرك جيدا أن المعادلة السياسية في تونس تصاغ في خارجها، كما صيغة معاهدة الاستقلال بعد هزيمة فرنسا في الهند الصينية، لكنه يعلم أيضا أن هذا الشعب لا يحكم الا بنهج وسطي يغيب فيه الشطط والتطرف.
حالة التنكر في هيئة بورقيبة أعادته الي الواجهة، اعاده (بورقيبة) لوضعه في خدمته بعد أن خضع لاستبداده خلال عقود حكمه، أجاد حبك الحيلة انتقاما من بن علي، وتداركا لزمن 7نوفمبر تاريخ إطاحة الابن غير الشرعي بالأب، لقد نجح الباجي في إدارة التناقضات.
تناقضات الساحة، و تناقضات شخصيته المراوحة بين حب بورقيبة والنقمة عليه،  لإقصائه من الحكم عقابا له علي تمرده علي سلطته، ومطالبته بإرساء الديمقراطية، داخل الحزب الحاكم، حزب يعتبره بورقيبة ركيزة الدولة وضامن استقرارها.
لم يكن المكبوت السياسي لدي الباجي قايد السبسي دفين أغوار نفسه، بل أطلق له العنان ليطفو الي السطح بعد سقوط نظام بن علي، فكانت المنستير حاضنة انبعاثه من رماد سنوات المنفي الداخلي، عاد لرص صفوف أنصار بورقيبة، و ضمان اصطفاف قواعد بن علي الباحثين عن حماية، من اعتقدوا أنه من أهل البيت، حتى وان كانوا يعلمون أنه لم يتردد في تصفية كبارهم بحجة الثورة.
أجاد ملاعبة الزمن، والاستفادة من قلة خبرة شخصيات كانت تحظى بشعبية واسعة  أواخر حكم بن علي كأحمد نجيب الشابي،  كان يعلم أن من صنعتهم الميديا الخارجية، لن يتمكنوا من فهم تحولات الشارع،  في مده وجزره ولا من استيعاب التناقضات الاجتماعية، وما تستوجبه من  إظهار للقوة دون استخدامها ضرورة.
تمكن من ترويض الاتحاد العام التونسي للشغل، ومن الإمساك بيد الغنوشي زعيم النهضة، بعد فشل حكم الترويكا وانقلاب المحيط الإقليمي ضد التيار الإسلامي، بعد  صعود السيسي الي الحكم  في مصر، وعودة الاخوان الي السجون.
انقلب الباجي علي بورقيبة، بعد دخول قصر قرطاج، و إقصاء منطقة الساحل من الصف الأول للحكم، بإبعاد الحبيب الصيد و العودة إلي ثقافة المخزن، بتعيين يوسف الشاهد، رئيسا للحكومة،  قتل بورقيبة رمزيا ليؤكد أنه علي استعداد للتواصل مع اي طرف يتفاعل معه في تحقيق أغراضه.
أغراض ليست بعيدة عن شخصية شريكه راشد الغنوشي، الذي كان يقاسمه هذه الهواجس وتسكنه هذه الدوافع، استوعب الباجي الطبيعة البراغماتية للحركة الإسلامية ولشخص زعيمها.
حركة لم تتردد في التحالف مع النظام السابق، سواء في عهد بورقيبة (لالتقاء مع مزالي وشيطنة أحداث 1978 التي تزعمها اليسار) أو خلال بداية حكم بن علي (تعبير الغنوشي عن ثقته في بن علي ) ادرك انها شريك مستعد للمهادنة، ولترحيل أهدافه إلي حين،  يعلم الباجي أن النهضة لا تزال مسكونة بهاجس الخوف من انتكاسة التجربة و يدرك تمام الإدراك أنها مرتهنة بتطور الظرف الدولي، وإمكانية إعادة صياغة مفردات المعادلة السياسية، في المنطقة، لكن أي خدمة أفضل من أن يجعل الحركة الإسلامية تحت إمرته.
لقد أكد السبسي، أنه رجل الشدة والحزم والمرونة،  لعب دوره كذراع أمني لبورقيبة في مواجهة الانشقاق اليوسفي، و انحاز لأمريكا ديبلوماسيا كقاطرة العالم الحر،  ولا يزال يحافظ علي نهج محافظ،  في هذا السياق نجح الباجي في كسب رهانه الشخصي وتمكن من دفع تونس  نحو مسار الحد الأدنى من الخسائر،  لكن في ضل انهيار الحزب الذي أسسه، واندلاع حرب الخلافة في محيطه، وعدم ثقته بحقيقة نوايا الحركة الإسلامية. هل ينجح الباجي في كسب رهان هزم الزمن مرة أخري ؟؟؟
الباجي الرئيس، لم يكن أقل مناورة من الباجي السياسي، فمهارة القفز علي الحواجز وتوظيف النقيض ميزتا دخوله لقصر قرطاج، استطاع حسم  صراع وضعه وجها لوجه مع الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي، بكل ما يحمله الرجل من معاني الراديكالية،  في مواجهة النظام السابق والتشدد في ملاحقة رموزه .
انتصار مزدوج علي “روبسبيارالثورة” التونسية وعلي حليفه المتخفي بلحاف الحياد “حركة النهضة،” كسب تاريخي لم يكن الباجي قائد السبسي، ليحلم به أو أن يتمثله في خيالاته، وفي ماضي حياته السياسية اول رئيس للجمهورية في انتخابات حرة تعددية شفافة ونزيهة، تترجم الإرادة السيادية للشعب.
ثأر تاريخي لا مثيل له،  أن يتسلم السلطة من رموز مرحلة خططت لإقصائه،  كان رموز تلك المرحلة  يرون  في الباجي قايد السبسي، مجرد ساكن مؤقت لقصر الحكومة بالقصبة، وسيعود حتما الي سباته السياسي، بعد صعود الترويكا، إلي الحكم وتسلم حمادي الجبالي لمفاتيح القصبة، لكن الرجل راهن علي فشل من لا صلة لهم بالدولة وكسب الرهان.
وصول الباجي لقرطاج، شكل نهاية مرحلة الزخم “الثورجي”،  وترجم انكسار التيار “التصفوي” المحمول علي حكم الترويكا،  أكيد لم يكن وضع الرجل في قرطاج مريحا،  فاكراهات دستور الجمهورية الثانية والنظام الهجين الذي أرساه  لا تتفق مع طبيعة “بورقيبة الثاني”،  الذي يميل الي ممارسة الحكم دون شريك.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP